التهاني المزيفة

 

عبدالله الفارسي

رسالة مُزعجة قد تضطرك لتكتب مقالا مزعجا، رجاء احتملوا مقالي المزعج هذا.

أحد أقاربي لا يستخدم تطبيق "واتساب" نهائياً، فسألته: لماذا؟ قال: لم أستطع احتمال تفاهات وأكاذيب وصفاقات الواتساب! فقلت له: أنت العاقل الوحيد في عائلتنا.

في الليلة الأخيرة من رمضان وصلتني بعض رسائل واتساب يهنئني أصحابها بحلول عيد الفطر المُبارك فتجاوزتها، وقبل عيد الأضحى وصلتني نفس الرسائل من نفس الأشخاص، فلم أتمكن من احتمالها فقررت مكافحتها بالكتابة والصراخ في وجهها. الأرقام كانت بدون أسماء، ولكني عرفت أصحابها من خلال صورهم في البروفايل؛ فهذه الفئة تحب أن تضع صورها في البروفايل لديهم إعجاب شديد بأشكالهم وعشق كبير لصورهم وغرام بملامحهم ويتمتعون بنرجسية طاغية في نفوسهم. وغالبًا أي شيء يصلني عن طريق الواتساب اعتبره كلاما فارغا، محض كذب، ومحض تملق، ومحض نفاق، إلا القلة النادرة جدًا من رسائل أولئك الذين أعرفهم معرفة عميقة. الواتساب هو تطبيق سخيف لترويج الأكاذيب وبثها ونشرها خاصة تلك المتعلقة بالعلاقات والمشاعر الإنسانية، إنه تطبيق ساهم في بث الترهات والأكاذيب والزيف في أرجاء المعمورة بشكل غير مسبوق، إنه تطبيق مزعج جدًا يقتحم هدوءك ويقلق خصوصيتك بكل وقاحة وفجاجة.

لذلك أنا لا أتبادل التهاني الواتسابية إلا مع فئة قليلة جدًا من الناس؛ أولئك الذين أتواصل معهم صوتيا وقلبيا أكثر من تواصلي معهم واتسابيا. لا اعترف بالرسائل الواتسابية ولا اعتمدها في علاقاتي القلبية ولم أضع في يوم ما رسالة عاطفية قادمة عن طريق الواتساب موضع اهتمام أو اكتراث ولا أحجز لها غرفة في قلبي.

الواتساب مدينة الفارابي الفاضلة المُزيفة، إنه جمهورية أفلاطون المثالية الوهمية؛ ستجد فيه كل القيم المفقودة كالصدق والشرف والرجولة والوفاء والأمانة والشجاعة، ستجد أهم الأخلاقيات المنقرضة كبر الوالدين ونكران الذات والكرم الحاتمي.

الواتساب عالم من الأقنعة المزيفة، تطبيق زاخر بالأكاذيب والنفاق والصفاقة.. إنها الأقنعة الجميلة التي يتمتع بها عالم الواتساب الوردي؛ بل هي الأقنعة المزيفة الجميلة التي تخفي القبح والبشاعة التي نتمتع بها في واقعنا الحياتي وسلوكنا اليومي. لذلك احذروا من رسائل الواتساب ولا تثقوا فيها ثقة مطلقة، أغلبها مليئة بالزيف ومعبأة باللاصدق.

لا تصدقوا كل المديح الذي يصلكم من خلال الواتساب.. لا تطمئنوا لكل الشوق الذي يهطل عليكم من سماء الواتساب.

حين وصلتني تلك الرسائل الزائفة قمت بحذفها مُباشرة لأنها وصلتني من أشخاص انتهت علاقتي معهم منذ سنوات، فما معنى أن يرسل لك أشخاص تهنئة بعد قطيعة سنوات!! إنه الزيف بعينه.

منذ سنوات سقطت أسماؤهم من قلبي، وحذفتهم من رزنامة حياتي وأتلفت ذكرياتهم ومزقتها. منذ سنوات أحرقت ملفاتهم في سلة معدنية قديمة ولم يبق لهم في عقلي سوى مجرد اسم عالق في جدار الذاكرة كمسمار صدئ.

سأسرد عليكم نموذجا واحدا من هذا الصنف الذي أرسل التهنئة، نموذج واحد فقط من أولئك الأصدقاء الذين تركوني في هدير العاصفة وجاء الآن بعد صفاء السماء وشروق الشمس وزقزقة العصافير ليقول لي "كل عام وأنت بصحة وسعادة وعساك من العايدين".

ذات نهار ليس ببعيد افتقدتُ أحد هؤلاء الذين أرسلوا تهانيهم بكل تبجح والذين كنت أضعهم في قائمة الأصدقاء وأكتب أسماءهم في رأس القائمة القلبية، والذي انتقلَ إلى مسقط ملتحقًا بمؤسسة حكومية أخرى بعد أن حصل على وظيفة مرموقة فيها.. كنت أفتقده فعلاً. فالتمست له أعذارا لقطيعته واختلقت له مبررات لهجره ونسيانه فقررت الذهاب لزيارته ومفاجأته في مكتبه. وصلت إلى المبنى. فدخلت المصعد وقبل أن يغلق باب المصعد دخل رجل مُحترم المصعد. كان يلبس نظارة شمسية فاخرة، وكنت في المصعد لحظتئذ ورفقتي رجل أجنبي، فدخل علينا المصعد ولم يرفع بصره إلينا، ولم يلقِ السلام علينا. لقد كان ذلك الرجل ذو النظارة الفاخرة هو صديقي الذي كنت ذاهب لمُقابلته وأتوق لزيارته ومتلهف لرؤيته ومفاجأته وعناقه.

لم أنبس ببنت شفة، صمت كالجدار، وخرست كالمصعد. كنت أنظر إليه منتظرًا أن يرفع بصره، لكنه لم يفعل ربما لأنه يعتقد بأن لا أحد أمامه يستحق رفع البصر أو حتى مجرد النظر أو التَّحية. وصل المصعد إلى وجهته، خرج صديقي الذي لم يعرفني ولم يرفع بصره نحوي، فعدتُ بالمصعد إلى الطابق الأرضي.. وألغيت صديقي من قلبي. هذا الرجل كان صديقا عزيزا لصيقاً لي؛ حين كنَّا زملاء عمل بسطاء رفعاء، حين كانت رواتبنا تنتهي بعد خمسة أيام من استلامها، فيأتي كلا منا يطلب النجدة من الآخر، فنضحك ونسخر من وضعنا المادي ومن صعوبة وثقل العمل بطريقة فرحة مرحة نقية تؤكد أن علاقتنا لن تنفصم، وأن ضحكاتنا لن تنقطع وستظل صادحة صادقة طوال العمر لن تهزها ريح ساخرة ولن تقتلعها أي عاصفة عابثة.

فجأة قرر صديقي هذا الانتقال إلى مسقط، واختفى بين السلالم والمصاعد. كان يتسلقها بهمة وخبث ودهاء حتى استطاع الوصول إلى مبتغاه، وقبض على وظيفة مرموقة ودرجة مالية مرتفعة وركب سيارة حكومية تحمل رقماً أبيض أنيقًا. نسي زملاءه وترفع عن مكالمة رفقائه ومراسلة أصحابه. هذا نموذج واحد فقط من أصدقاء الواتساب.

هذا الصنف من الناس حين يرسل لك رسالة يهنئك فيها بهلال شهر رمضان أو بقدوم عيد الأضحى بعد مرور خمس أو ست سنوات من التجاهل والنسيان والاختفاء خلف نظارة شمسية معتمة ومقعد جلدي فاخر، تشعر أنه لا يُريد أن يهنئك، وإنما يريد أن يجرحك ويطعنك، وينبش ذاكرتك القديمة، ويوجعك ويجلد إحساسك العميق بالصداقة، ويهين كرامتك الثمينة التي كان يتمنى أن يملك نصفها ولطالما كان يحسدك عليها.

هذا الصنف المزيف المغشوش من الناس مروا كثيرا في حياتنا، وسقطوا من قلوبنا كما تتساقط أوراق الخريف اليابسة، وأصبح مجرد تذكرهم يصيبك بالغثيان والتقيؤ لأنهم ليس مصدر فخر واعتزاز؛ بل هم في الحقيقة مصدر عار وخيبة وإنكسار وانهيار.

هولاء الزائفون المتسلقون الذين مروا بحياتنا ارتفعوا بنفاقهم ووصلوا بكذبهم وتملقهم إلى مواقع لا يستحقونها، هم في الحقيقة لا يملكون تلك الكفاءة في العمل، ولا ذلك الإخلاص في الميدان، ولا يتمتعون بذلك الذكاء والإتقان والإبداع؛ وهذه من أعظم مصائبنا وأمراضنا الإدارية. لم يكن الذكاء ينسابُ من بين أصابعهم، ولم تكن العبقرية تشع من عيونهم وجباههم، وإنما كانوا خبثاء محترفي الخبث ضليعي الدهاء، كانوا يعرفون من أين تؤكل الأكتاف وكانوا يتقنون سرقة الفرص؛ فوصلوا بسهولة إلى مآربهم وحققوا غاياتهم وسيسقطون بسهولة من مقاعدهم، كغيرهم وأشباههم الذين جلسوا على مقاعد أكبر من حجمهم وليسوا جديرين بها، وانتهت صلاحيتهم والآن يحوم الذباب حول أنوفهم ويهشونه من وجوههم.

مثل هذا الصنف الرديء من الأصدقاء لا يمكن أن يكون لهم أثر في حياتنا إنهم مجرد لوحات إعلانية عبرت ذاكرتنا البصرية ذات زمن خلال مشوار حياتنا القصير والمقرف إنها أسماء كتبت بأقلام رديئة سرعان ما مسحتها أشعة الشمس وأكلها الغبار.

ما أكثر الأرقام التي حذفناها من هواتفنا من هذه الفصيلة الرديئة والذين كانوا يتربعون في مركز القلوب ذات ماضٍ حين كانوا بسطاء لطفاء في بداياتهم الوظيفية، وحين كبروا قليلا وانتقلوا إلى المكاتب الفارهة وجلسوا على المقاعد الجلدية الفاخرة والمتحركة وركبوا السيارات الفارهة وأصبحت مكاتبهم لا يمكن دخولها إلا ببطاقة مشفرة أو بموافقة مسبقة، انتفخوا كبالونات رخيصة هشة وخفيفة فطاروا من قلوبنا مع أول نسمة هواء عابرة.

مثل هؤلاء البشر حين يرسلون لك ذات عيد أو ذات مناسبة تهنئة أو مباركة، تأكد أنهم كاذبون ومنافقون وغير صادقين البتة، إنها تهاني فارغة من المضمون؛ إنها رسائل خاوية من العاطفة الصادقة معبأة بالزيف مغلفة بالعبث منكهة بالسخرية.

هؤلاء لا يستحقون سوى المسح النهائي من ذاكرة القلب العميقة والحذف الكلي من ذاكرة الهاتف اللعينة، حتى تتمكن من الاستمتاع بيومك وصيامك وصلاتك ومناسباتك، وتواصل حياتك بهدوء وسكينة بعيدا عن ذكرى ماضيهم الشوكي وواقعهم المزري.

لذلك كم أتمنى وأتمنى من شركة فيسبوك أن تكفِّر عن ذنوبها الكبيرة وسيئاتها الفظيعة وتعمل على تطوير تطبيق الواتساب، أتمنى منهم إدخال تقنية حذف الاسم مرتبطا بالذاكرة بحيث تحذف الاسم وتحذف كل الذاكرة البصرية والذهنية المرتبطة بصاحب الاسم المحذوف. فإذا ما صادفت صاحب الاسم المحذوف في الشارع لا تعرفه أبداً فقد تم حذفه من الذاكرة الذهنية والذاكرة البصرية.

فيا ترى متى سنصل لهذه التقنية العظيمة المباركة؟!