علي الرئيسي
باحث في الاقتصاد وقضايا التنمية
يقول أحد الأصدقاء إنِّه قرأ البيان الختامي لصندوق النقد الدولي في زيارته الأخيرة للسلطنة، ولم يستطع الخروج بنتيجة محددة من التقرير. فقلت له صحيح فإنَّ البيان يقول كل شيء ولا يقول شيئًا. وهذا المقال لا يسعى نحو قراءة نقدية لتقرير الصندوق، لأن التقرير كاملا لم ينشر حسب علمي حتى الآن. فالبيان يعكس حالة اللايقين التي تسود الاقتصاد العالمي وصعوبة التنبؤ بالاتجاهات العامة. ومن ناحية أخرى يحمل التناقضات في السياسات التي يحاول خبراء الصندوق تقديمها كمشورة للدول الأعضاء.
ينصح الصندوق بالثبات على برنامج التوازن المالي وهو يعترف بأن ذلك سيؤثر على النمو الاقتصادي سلبًا. ويُطالب الحكومة بالتخفيف من الآثار الاجتماعية للجائحة دون أن تقوم بزيادة الإنفاق الحكومي. كما أنه يطالب الحكومة والبنوك بمساعدة القطاع الخاص من حيث خفض سعر الفائدة وإعطاء مهل أكبر لتسديد القروض وفي ذات الوقت يدعو إلى مراقبة القروض المتعثرة ويحذر من آثارها على سلامة النظام المصرفي. هناك العديد ممن يصفون سياسات الصندوق والبنك الدولي بأنها معايير مزدوجة، فالصندوق يبارك سياسات التسيير النقدي (المالي) في الدول الغنية مثلاً، بينما يشدد على سياسات التقشف في الدول الناشئة والنامية رغم ما تحدثه من أزمات اجتماعية وسياسية. ويرجح البعض أن مشكلة الصندوق والبنك الدوليين هي في اعتمادهما على نموذج الاقتصاد النيوكلاسيكي والمعتمد على افتراضات كان من المفروض التخلص منها منذ فترة طويلة.
في الحقيقة أن الدول النامية والناشئة تواجه معضلة ألا وهي أنها تفتقد إلى حيز مالي يمنحها القدرة على التعافي الاقتصادي من آثار الجائحة بأريحية كما هو حال الدول الغنية. فالحكومات في الدول الناشئة لا يمكنها أن تضخ أموالا أكثر في اقتصادياتها إلا بالاقتراض من الخارج. والاقتراض الخارجي وصل إلى مراحل تهدد الاستدامة المالية. في عُمان في عام ٢٠٢٠على سبيل المثال بلغت نسبة الدين العام ٨٠٪ إلى الناتج المحلي الإجمالي حسب تقديرات الصندوق وبلغ العجز في الموازنة العامة ١٨٪ من الناتج المحلي الإجمالي بينما بلغ عجز الحساب الجاري ١٦٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
ورغم أن بيان الصندوق يشمل الزيارة التي تمت في شهر فبراير٢٠٢١، إلا أن الإحصائيات تغطي عام ٢٠٢٠، والكثير حصل خلال السنة الحالية سواء من ناحية ارتفاع أسعار البترول، والإغلاقات التي حصلت، وآثارها على الأعمال وبالذات الصغيرة والمتوسطة. هذا بالإضافة إلى القرارات التي تم إصدارها مثل تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وقوانين العمل، وبالإضافة إلى خروج أعداد غير قليلة من الوافدين، والذي لاشك ستكون له انعكاسات مهمة على المؤشرات الاقتصادية المختلفة. علماً بأنَّ الصندوق لا يقوم بتحديث ونشر هذه البيانات حتى أكتوبر المقبل.
تشير البيانات الرسمية إلى أنه منذ مارس من السنة الماضية، أن الحكومات أنفقت ما يقرب من 16 تريليون دولار؛ وذلك كخطط للدعم والتحفيز وذلك في إطار تحركها لمواجهة جائحة كورونا. وقد سجل العجز في الموازنات العامة أرقامًا قياسية رغم ما قدمته البنوك المركزية من سيولة وخفض قياسي لأسعار الفائدة. ولولا هذا الدعم لوصل الركود في الاقتصاد العلمي إلى ثلاثة أضعاف الوضع الحالي حسب أبحاث صندوق النقد الدولي. وقد بلغت خسائر الاقتصاد العالمي رغم ذلك إلى حوالي ١٥ تريليون دولار حسب نفس المصدر.
وفي الأيام الأخيرة تزعم مجلة "ذي إيكونيمست" البريطانية أن عدم اليقين بالنسبة للجائحة أصبح أمرا خارج التوقعات، وخاصة مع انتشار المتحورات الجديدة. فأسواق المال شهدت تراجعا كبيرا، كما أن هناك التخوف من عودة التضخم، حيث سجل التضخم مستويات مرتفعة، رغم ما يكرره العديد من الاقتصاديين بأن هذا التضخم مؤقت. كما أن الأرقام الخاصة بمؤشرات أسواق العمل لا تعطي مؤشرات إيجابية. يبقى أن هذه المؤشرات انعكست أيضاً على تراجع في أسعار النفط.
فبالنسبة لأسواق المال فأذونات الخزينة الأمريكية على سبيل المثال، والتي تعتبر ملاذا آمنا للمستثمرين في أوقات الأزمات، ففي مارس قام المستثمرون ببيع هذه الأذونات وذلك بسبب التخوف من ارتفاع نسب التضخم حيث وصل العائد على هذه الأذونات استحقاق ١٠ سنوات ١،٧ ٪ ولكنها بدأت في التراجع بعد أن سيطر الشك حول قوة النمو، والتخوف من التباطؤ الاقتصادي. وفي ١٩ من الشهر الحالي وصل العائد على هذه السندات إلى ١،٩ ٪. وقد تراجع مؤشر الشركات اس & بي ٥٠٠ بنسبة ١.٦مع تراجع أكبر للشركات الصغيرة. أما بالنسبة للنفط فقد انخفض السعر بنسبة ٧٪ ليصل إلى ٦٩ دولارا أمريكيا.
وتعاني دول شرق آسيا من انتشار كبير في الإصابات بكوفيد ١٩ مع تراجع كبير للاقتصاد وبالذات في إندونيسيا، ماليزيا وتايلند.
هذا دليل على عدم الاستقرار وصعوبة التنبؤ حيث عادت بعدها أسعار النفط إلى الارتفاع مع تحسن في أسعار الأسهم والعائد على أذونات الخزانة الأمريكية. لذلك ليس مستغرباً أن يأتي بيان الصندوق في زيارته لعمان يحمل أحجية أكثر من تحليل منطقي وتنبؤات يمكن الاستعانة بها.