حاتم الطائي
◄ التغير المناخي أشد خطرًا على البشرية من الأوبئة والأمراض
◄ علينا التوسع في مشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر
◄ يجب إعادة النظر في التخطيط العمراني لتجنب البناء على ضفاف الأودية
فيضانات عارمة في أوروبا والصين، وحرائق في الولايات المُتَّحدة وكندا، وأمطار غزيرة في الخليج وأفريقيا، وارتفاع كبير في درجات الحرارة بأشد مناطق العالم برودة، وهنا في عُمان، شهدنا قبل نحو شهر، حرائق في جبل شمس تأكل الأخضر واليابس مع الارتفاع الشديد لحرارة الجو، إلى جانب أخاديد من منخفضات جوية، وأمطار غزيرة، وجريان غير مسبوق للأودية والشعاب في العديد من المُحافظات خاصة الساحلية منها... إنه التغير المناخي الذي يوشك أن يتسبب في كوارث طبيعية لا طاقة لبني البشر بها، ولن يكونوا قادرين على مُعالجة تبعاتها وتداعياتها، إلا إذا توحدت الجهود واتفقت الدول على خطة شاملة لمُعالجة الاحتباس الحراري المتسبب الأول في التغير المناخي الذي نواجه، والذي ربما يكون أخطر على البشرية من الأوبئة والأمراض، كفانا الله جميع المخاطر.
الواقع يقول إنِّه منذ بدء الخليقة والأمطار والفيضانات وارتفاع أو انخفاض درجات الحرارة، كلها ظواهر طبيعية اعتادها الإنسان منذ أن وطأت قدماه ظهر هذا الكوكب، لكن التسارع الشديد في حدوث هذه الظواهر وتفاقمها وتزايد تأثيراتها الضارة على الجميع، ينذر بكوارث أشد خطورة، ويضع حياة البشر على المحك، دون مبالغة، فكم من أمم قبلنا هلكت بسبب كوارث طبيعية حلت بهم، حتى إنَّ بعض علماء الجيولوجيا يطرحون دائمًا فرضية أن تغيرات مناخية كانت وراء انقراض الكثير من الأنواع الحيوانية أو النباتية، ولعل أبرزها الديناصورات!
فهل ننتظر حتى تحل الكارثة وينقرض البشر بفعل التغير المناخي المُتسارع؟
لا أعتقد أنَّ الأمر سيصل إلى هذا الحد، لكن من المحتمل أن نواجه مخاطر لن نقوى على مُجابهتها، مهما امتلكنا من تكنولوجيا نوعية أو وسائل للحماية من خطر الكوارث الطبيعية، ولنا العبرة فيما حدث في حرائق الغابات في أستراليا بين عامي 2019 و2020؛ حيث فقدت مملكة الحيوانات نحو 500 مليون حيوان، بين ثدييات وطيور وزواحف، منها ما يزيد عن 8 آلاف من حيوان الكوالا المهدد بالانقراض، ومن المفزع أن غالبية هذه الحيوانات نفقت حرقًا، وما أبشعها من ميتة. وقس على ذلك الخسائر الأخرى، سواء فقدان عشرات الآلاف من الهكتارات الصالحة للزراعة، أو تآكل مساحة الغابات التي تعد مصدرًا أساسيًا لتوفير الأكسجين في كوكبنا، والجميع يتذكر ما ألمَّ بغابات الأمازون المطيرة من حرائق استمرت لأسابيع وسط صدمة وذهول في أنحاء العالم. وهنا نحن لا نتحدث فقط عن أضرار حرائق الغابات أو غطاء نباتي أرضي على معدلات إنتاج الأكسجين وحسب؛ بل أيضًا نشير بوضوح إلى فقدان التنوع البيئي والأحيائي، فهذه الغابات وغيرها من المسطحات الخضراء تمثل موائل طبيعية لعشرات الآلاف إن لم يكن مئات الآلاف من الأنواع الحيوانية والنباتية، ومنها ما هو مهدد بالانقراض نتيجة لما تواجهه من تحديات؛ من المؤسف أنَّ معظمها- وفي كثيرٍ من الأحيان جميعها- من صنع الإنسان، فالسعي وراء تحقيق الأرباح من قطع الأشجار في الغابات أو حتى العبث بالطبيعة بأي صورة كانت، يُعد من أبرز أسباب التغير المناخي.
وقد انتبه العالم في تسعينيات القرن الماضي لقضية التغير المناخي، ففي عام 1995 انطلقت مباحثات عالمية تستهدف تعزيز الاستجابة لقضية التغير المناخي، وفي عام 1997 جرى اعتماد "بروتوكول كيوتو" والتي كانت بمثابة الإجراء التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة المبدئية للتغير المناخي، والتي كانت ثمرة مُؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية أو ما يُعرف بـ"قمة الأرض" الأولى التي عقدت بمدينة ريو دي جانيرو في البرازيل عام 1992. وعندما عقدت الأمم المتحدة مؤتمرها الدولي حول التغير المناخي في باريس عام 2015، تمخضت المباحثات عن إبرام أول اتفاق عالمي بشأن المناخ وهو ما يعرف بـ"كوب 21" أو اتفاق باريس للمناخ، والذي وضع حزمة من الأهداف والمحددات التي ينبغي الوصول إليها بحلول عام 2025، وعلى رأسها سعي جميع دول العالم- لا سيما الدول الصناعية الكبرى التي تعتمد على الوقود الأحفوري- لاحتواء الاحتباس الحراري لأقل من درجتين مئويتين، علاوة على توفير 100 مليار دولار كمساعدات للدول النامية لدعم تحولها نحو استخدامات لا تتسبب في الاحتباس الحراري أو تقلل منه، وهو مبلغ زهيد للغاية لا يمثل سوى قدر صغير جدًا من الأموال التي ينبغي تخصيصها لمواجهة الاحتباس الحراري والحد من غازات الدفيئة، المسبب الأبرز للاحترار العالمي.
الحقيقة أنَّ العالم ومنذ ذلك الحين لم يحقق أي تقدم يُذكر على مضمار الحد من الاحتباس الحراري، فما زالت الدول الصناعية الكبرى تعتمد في نهضتها على الإنتاج الكثيف الذي يستهلك كميات هائلة من الوقود الأحفوري (النفط ومشتقاته)، كما إن هذه الدول لا تقدم الكثير من المساعدات للدول الفقيرة، والتي تعد الأشد تضررًا من ظاهرة الاحتباس الحراري؛ حيث تعاني الدول الفقيرة- مثل دول أفريقيا جنوب الصحراء أو حتى بعض الدول في أمريكا الجنوبية وآسيا- من جفاف مُمتد، الأمر الذي يقلل من إيرادات حكومات هذه الدول، فتتراجع معدلات التنمية لمستويات خطيرة للغاية، وتنتشر الأمراض والأوبئة، فضلًا عن ارتفاع معدلات الجهل والفقر والمرض والجريمة وغيرها من النتائج الكارثية.
ولقد نددت تقارير المنظمات العالمية بسياسات الدول الصناعية، خاصة فيما يتعلق بقضية تمويل الدول الفقيرة، فالمبالغ المرصودة لا تفي باحتياجات الدول المتأثرة من ظاهرة الاحتباس الحراري، كما إن سياسات بعض الدول أضرت كثيرًا بالجهود العالمية، ومنها انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من اتفاقية باريس للمناخ (لكنها عادت مرة أخرى مع تولي الرئيس جو بايدن الحكم)، وغيرها من العوامل والظروف التي تعرقل جهود الإصلاح.
المعطيات جميعها تشير إلى أن العالم يتهدده خطر محدق في ظل الظواهر الطبيعية الناجمة عن التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة، فثمة دول قد تختفي من على خارطة العالم إذا لم تتغير المعادلات البيئية الراهنة، فمثلا الدول الجزرية قد تفقد مساحات هائلة من أراضيها أو تغمرها المياه عن آخرها!
ومما يؤسف له أيضًا أن الجهود العالمية لمواجهة الاحتباس الحراري تتعرض لتنصل البعض أو تهوين آخرين من خطورة القضية، ففي الوقت الذي تسعى فيه الأمم المتحدة لإلزام الدول الصناعية الكبرى بتخصيص المزيد من الأموال للمساعدة في الحد من الاحتباس الحراري، ألقت الدول الناشئة بالمسؤولية على الدول الكبرى، رغم أن دولة مثل الهند (وهي تعد اقتصادًا ناشئًا) تتسبب بدرجة كبيرة في ظاهرة الاحتباس الحراري، نتيجة اعتمادها الهائل على الوقود الأحفوري في صناعاتها.
لكن إلى جانب مساعدات التمويل الدولية، فإن ثمّة حلول أخرى ينبغي على دول العالم تبنيها، وفي مقدمتها تنفيذ مشاريع الاقتصاد الأخضر، مثل مشروعات إعادة تدوير المخلفات، ومشاريع الطاقة المتجددة وإنتاج الهيدروجين، ووقف عمليات التصحر والحد من قطع الغابات، والتوسع في زراعة الأشجار، وغير ذلك كثير.
ومن هنا لابُد لنا في السلطنة أن نأخذ الاحتياطات اللازمة، خاصة فيما يتعلق بالتخطيط العمراني، ومشاريع البنية الأساسية، منها تجنب البناء على ضفاف الأودية، فالواقع يُؤكد أنَّ هذه المناطق غير آمنة على الإطلاق، ولنا فيما حدث بقرية الصباخ بولاية صور عندما غرقت بيوت بأكملها، فضلاً عن مواقع أخرى تغمرها المياه كلما هطلت الأمطار وجرت الأودية والشعاب عبرة.
المطلوب الآن في بلادنا، التوسع في بناء سدود الحماية وفق معايير أعلى عن ذي قبل، وذات قدرة استيعابية للاحتفاظ بأعلى معدل متوقع من المياه للسنوات الخمسين المقبلة، فلن نبني سدًا كل 5 سنوات! أيضًا يتعين على جهات الاختصاص العمل على زيادة الطاقة الاستيعابية للسدود القائمة حاليًا، والتي بُنيت قبل عقود.
الأمر الآخر، يتمثل في التوسع بمشاريع الطاقة المتجددة، خاصة وأننا نملك من المقومات ما يُساعدنا على تنفيذ مشاريع نوعية، مثل إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية، وأيضاً مشاريع الهيدروجين الأخضر، على غرار المشروع الواعد في مدينة الدقم.
وختامًا.. لا يُمكن إغفال الخطر الذي يلاحق كوكبنا نتيجةً للتغير المناخي، والذي تسببت فيه الممارسات البشرية في المقام الأول، لكن علينا العمل من أجل الحد من الأنشطة الضارة بالبيئة والمناخ، وفي المقابل الاستفادة من التحولات المناخية، مثل إقامة المزيد من السدود وتخزين المياه الجوفية، وتشجيع الممارسات البيئية الصحيحة، ولنرفع جميعًا شعار "الاقتصاد الأخضر"، فالحياة على الأرض في مهب رياح التغير المناخي، ولن ننجو إلا بتكاتف الجهود العالمية وصون الطبيعة وحمايتها من أنفسنا أولًا قبل أي شيء آخر.