تاريخية تاريخ التدوين!

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

"حيثما يوجد الخوف.. تختفي الحقيقة" ديمتري ليخاتشوف.

غريب العنوان أليس كذلك؟، لكن أيضًا الموضوع غريب، ونادرًا ما يتم تناوله بشكله العام، والأندر جدًا تناوله بشكله الخاص؛ أي خاصية بحث وتحليل حدث مُعين، هنا أقصد البعض من المؤرخين ذوي الأمانة والنزاهة الذين لايستطيعون توثيق كل حدث بشكله الحقيقي، لأسباب مفهومة لكل مهتم، إذ لا يُمكن منطقيا تصور كتابة التاريخ الحاضر كما هو بالضبط بدون إضافة أو حذف أو تعديل أو زيادة بهارات، بالطبع العذر الجاهز هو دواعي المصلحة العامة!

ولكي أوضح أكثر مثلاً مواطن في الدولة عمله هو تأريخ وتوثيق يومي لأحداث دولته، هل سيستطيع كتابة تاريخ يُعارض رأي البلد (أيا كان الرأي إيجابيا أم سلبيا) علينا أن نجلس على الأرض ولا نطير مع مبادئ لاوجود لها على أرض الواقع فبعض المبادئ تطير في السماء ولا تجلس على الأرض، تعيش بأوهام المثالية غير الموجودة بالواقع، وفي محاولة لحفظ الحقيقة أصبح البعض يتَّجه للكتابة الروائية ليكتب رواية في الحقيقة هي تدوين تاريخي 100 بالمائة، ربما ليتجاوز موانع وحواجز رقابية معينة، لا أشجع ولا أتعامل مع ذلك الوضع الخاطئ بالتسليم التام، لكن أصفه كي ينتبه المتابع لذلك الأمر، المؤرخ بالنهاية مواطن لايملك القوة التي تسانده وتسعفه في مواجهة المجتمع قبل الجهة الرسمية، صحيح يوجد هامش من الحرية لكتابة التاريخ لكنه ليس كافيًا، إن لم تكن حرا غير مقيد الرأي فلن تكون مؤرخاأمينا ولا نزيها، علينا أن نتفهم أهمية التاريخ وقوته وسطوته، ماتزال الكثير من الدول المتقدمة تتعامل مع التاريخ كرمز للدولة وتقاليدها وتعتز بذلك، ففي لندن تجد المباني التي بنيت منذ قرون تتباهى بالقرب من الأبراج الشاهقة الحديثة، وعندما تبحث في التذكارات لمدينة لندن لن تجد سوى صور المباني القديمة.

أكثر من مرة كتبت أن أخطر مهنة هي أن تكون مؤرخًا نزيهًا أمينًا، أذكر ذات مرة أنه خطر على بالي أن أؤرخ التاريخ أي تأريخ التدوين، فعدلتُ عن الفكرة لصعوبتها واستحالة الوصول لنتيجة مقنعة ومفيدة، أي باحث بالتاريخ يعلم أن الأغريقي هيردوت هو من يسمى أبو التاريخ وفق مصادر كثيرة، إنما السؤال هل صحيح أن هيردوت أول من كتب التاريخ؟

واقع الأمر، أن ثمة مساحات للاختلاف تبرز وفيها وجاهة، فمثلاً: ألا نعتبر المخطوطات والمنحوتات الجدارية سواء على صخور الجبال أم الجثامين المحنطة (الفراعنة مثلا) تأريخ لمرحلة أو حقبة زمنية أو حتى لحدث أو مناسبة ما؟

أي متتبع للكتابات التاريخية سيجد فراغات وليس فراغا واحدا بين الحقب الزمنية المؤرخ لها، نقول التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر، وفي الواقع هي مجرد مصطلحات يعكف عليها البحاثة (وهي مهمة ولا شك) وأيضا حركة الكشوف الجغرافية، لكن الإنسان اكتشف أن هناك حضارات في العالم الجديد غير مؤكدة تدويناتها المؤرخة لها كالآثار المكتشفة في المكسيك وفي أمريكا اللاتينية (الجنوبية) مثل كولومبيا، وهي حضارات غامضة، وإن اكتشف وتم فك بعض خطوطها، لأنها في عالم جديد وليس بالقارات القديمة، وهنا يفتح الباب واسعاً بأن حتى كريستوفر كولومبوس ليس هو أول من وطأت قدماه أرض العالم الجديد، وهناك من المجتهدين من يُؤكد أن الهنود الحمر هم بالأصل أفارقة أتوا عبر بحر الظلمات إلى القارة الجديدة بدليل بعض التشابه في السحنة، سكان أمريكا الأصليين قد تعلموا كيفية إشابة وصهر الذهب ومزجه بالمعادن الأخرى، وهي طريقة أفريقية خالصة (1)، وهناك من يؤكد أن البحار العربي ابن ماجد من جلفار هو أول من اكتشف القارة الجديدة (2)، وهناك أحاديث عن ممالك مجهولة في الأمازون، والكلام كثير في ذلك هنا من الممكن أنه لم تبرز مهنة أو صفة كاتب التاريخ، لكنه أعتبر الناس في كل حقبة بأن لهم طريقتهم الخاصة في تخليد بعض المآثر أو الأحداث، وقتذاك لا يوجد شيء اسمه مؤرخ لكن الناس تؤرخ بطريقتها الخاصة، وكمثال في العصور الجاهلية قبل الإسلام وبعد الإسلام كان الشاعر هو مؤرخ رغم أنفه، يمتدح ويهجو وفقاً للحدث الحاصل بل وتبنى بناء على قصيدته تصورات معينة حول حدث ما، لماذا ؟ لأن الشعر ديوان العرب وبإمكان الشاعر تتبع أحداث وتوثيقها بأي شكل سواء إشادة أم هجاء.

يقول ذئب الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر: إن التاريخ هو ذاكرة الأمم، أو معمل كبير لتجارب البشرية، يحفل بمعادلات النجاح لمن يحسن صياغتها ، كيسنجر وهو الذي يعتبر أحد أهم العقول المفكرة في السياسة الأمريكية يتحدث هكذا ويعي أهمية التاريخ وتأثيره لأن التاريخ والسياسة صنوان لايفترقان فإذا كنت سياسيا يجب أن تكون ملما بالتاريخ والمؤرخ سياسي رغم أنفه!

-------------

 

  1. مقال: هل المسلمون أول من اكتشف الأمريكتين قبل كريستوفر كولومبوس؟ كتبه: محمد عبدالرحمن، صحيفة اليوم السابع (مصر) في الجمعة، 6 سبتمبر 2019.
  2. نفس المصدر السابق.