"حِنكش فِنكش" (*)

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

وَقَفَ التاجرُ المُتهم في المحكمة، وكان يتضرَّع بقلب خاشعٍ، ويُتمتِم بما يحفظ عن ظهر قلب أثناء الجلسة، ويقول: "حِنكش فِنكش، فاركوش الكل من حولك، حَلَّق وما يحوش".. لم يتوقف أبدًا عن ترديد ترانيمه وتعويذاته التعجيزية، ولم يُعكِّر سُكونه وثباته غير حركة شفتيْه الخفيفة، التي لم تتوقف حَركتها إلا بعد أن أعلن القاضي تأجيل الجلسة. وبعد تأجيلٍ وآخر، اكتشفَ القضاةُ فيما بَعد أنَّ المتهم كان يُخفِي ثلاثين حِرزاً وطِلسَما تحت طيَّات ثيابه. الحُروز والطلاسم ليستْ حِكراً على شياطين النساء فقط، ولا يختصُّ به العرب أو سُكان شرق آسيا والقارة السَّمراء، بل يتشارك حيازتها الغربُ أيضًا، ويكفيهم "عيد الهالوين" فهو في الأصل تمجيدٌ للساحرات والسِّحر الأسود.

لطَالمَا يأسِر البشرَ المجهولُ والغامضُ، بل ويشدُّهم، فتفيضُ خوالجهم بالأسئلة: ماذا ينتظرني بالغد؟ ماذا يُعطل دفة حياتي؟ لِمَ تكثُر عثراتي وسقطاتي؟ سطوة الفِكرة وقوتها وعمق الإيمان بها لهو السُّلطة المطلقة في كينونتها. يدلُو كثيرون بدَلوهم في بئر الأفكار الآسنة، فيخلصوا النوايا ويعقدوا عُروة الثقة بـ"الحِنكش فِنكش"؛ فهي بألف حارس هُمام، وهي درعٌ يَقِي شرورَ العَوز والحاجة، وهي حِبالُ الرَّسن التي أُقْمِعت بها رؤوس العوائق والكروب.

وبَيْن إيمان بالفكرة ويقين بالأباطيل والخرافة، يتعثُّر حافرُ الصدق والحق، ويستحيلُ المستحيل سهلاً، سلسلاً، مُنسابا، رقراقاً، طيبَ الذكر والمعشر، كثيرَ الخير، وافرَ النعم، يُبعِد الشر والمحشر. تُطرَق أبوابُ "العرافين"، وضاربي "المندل"، أو "ورق التاروت"؛ لتزيح الستار عن أيدٍ خفيةٍ تعبث بنردِ الحياة المُتعثِّر، وإن كانت هي هواية أصيلة للنساء، فقد غَدَت أَنَجَع وسيلة للسَّادة الأفاضل الرجال. إنَّه سباقُ الحياة، وهرولة الضِّباع؛ للحفاظ على سُلطة أو ثروة أو نَيْل حَظوة؛ إما بخاتم مشغول بالفِضَّة يتوسَّطه حجر كريم قانيٌّ يُلبس في الخِنصر أو البِنصر، أو ورقة مُحفوظة داخل محفظة.

ولكنْ مَن يعلم الحقيقة؟ هل الحامي والحارس ورقة مَطويَّة أو خاتمٌ يُلبس، أم هو عُمق إيمانك بجدوى الوسيلة، والثقة بسر الكلمة وقوتها وفاعليتها؟!!!!

سِرُّ العرَّاف والآفاق هو الإيمان المُطلق واليقين الثابت في "حِنكش فِنكش"، تماماً كيقين المنتمين للطائفة الدينية (معبد الشعوب) بقائدهم المُلهِم (جيم جونز)، الذي قاد 913 شخصًا -من بينهم 200 طفل في العام 1978م، للانتحار الجماعي.. لم ينجُ سوى شخصيْن فقط؛ صرَّح أحدهما -فيما بعد- بأنَّ كلمات "جيم جونز" هي الحقيقة التي لا تقبل الجدل أو الدحض، أو أن تنفصم، عُروة "جيم جونز" هو الكلمة الحقة وما عادها باطل.

إذن؛ للكلمة وقعٌ وأثر، ونِصَالٌ حادة تقطع وتزعزع، وللفكرة مَخَالب تُطبق وتُسيطر بغضِّ النظر عن ماهيتها: هل هي هراء أو واقع؟ القوة واليقين بالفكرة هو ما يُعطيك النتائج إن كُنت مَمسوسًا من شيطان، أو تمكنت منك خربشاتُ جان، فأنت وحدكَ مَن يُحدِّد ما هو "الحِنكش فِنكش"؛ فاحترس من "الحَلَّق حُوش".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* "الِحنكش": ادعاء ما ليس له أساس من الصحة. و"الفِنكش": الشيء الذي لا وجود له مُطلقاً.. والكلمتان مُترافقتان كمثلٍ دارجٍ، أو تعبير مُتعارف عليه بمعنى: زيف وتخاريف باطلة.