الصبر والمجهول!!

 

راشد بن سباع الغافري

قبل سنوات عدة تواصل معي أحد الشباب قائلاً: نريد أن نقوم بحملة مطالبة لتوظيفنا ونريد من حسابك على تويتر أن يقف بالتأييد إلى جانبنا، وعدته بذلك رغم أنَّي في تلك الفترة لم أكن أستشعر هذه القضية ولم آخذها بمحمل الجد لسبب وحيد وهو أنني لا أعاني منها فأبنائي كانوا صغارًا وهم لا يزالون على مقاعد الدراسة، لكني شاركتهم تعاطفًا معهم وتأييدًا لمطلبهم.

يومها أذكر أنني كتبت تغريدة قلت فيها إنَّ "حكومتنا الرشيدة لم تنفق الأموال الطائلة على تعليم أبنائها كي يظلوا قابعين في بيوتهم وإنما لكي يُسهموا ويشاركوا في نهضة وطنهم". دارت الأيام وتخرج ابني في كلية العلوم بجامعة السلطان قابوس في أحد تخصصات النفط والغاز، وكان يُمنّي النفس بالتوظف السريع لأننا بلدٌ غني بالنفط والغاز، وكنَّا كأسرة نعول على ذلك كثيرًا. لكن الرياح سارت بما لا نشتهي ولا نتمنى، وتمر السنوات وهو باحث عن عمل، ورغم صدمة الأمر إلا أننا حاولنا جاهدين امتصاص تلك الصدمة وذلك الواقع.

فما كان منه إلا أن استأذنني في العمل داخل محل لبيع الهواتف النَّقالة، مبررًا ذلك بأنَّه يرغب على الأقل في توفير مصروفه الشخصي بدلًا من الطلب مني إعطائه إياه، وأيضًا استغلالًا لوقته في شيء مُفيد بدلًا من الجلوس دونما فائدة، وقد كنت استشعر كبريائه ذاك كما أستشعر المه بعدم الحصول على الوظيفة التي كان يتمناها، وهو من كان يعلّق لافتة على باب غرفته تقول "غرفة المهندس فلان بن فلان الفلاني". وقد ظل يعمل في محل الهواتف ذاك لأكثر من عامين.

هنا فقط أذرف كوالد دمع الحسرة وأنا أرى جهد ابني يضيع، وحلمه يتلاشى، وتمر عليه السنة تلو الأخرى وهو لايستطيع تكوين نفسه، حيث لا وظيفة لا بيت لا زواج!! وقد استشعرت حينها معنى أن يكون ابنك باحثًا عن عمل، خصوصا وقد تبعته أخته في ذلك بعد تخرجها في إحدى الكليات وما زالت كذلك حتى كتابة هذا المقال.

ومع كل ذلك ما كنت أسمح لهم بالتذمر من وطنهم، ولا باليأس من واقعهم "فما بين طرفة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال" وكنت كثيراً ما أشدد عليهم بالقول لهم "إن خسرتم عُمان فقد خسرتم كل شيء".

وبفضل من الله تلوح في الأفق فرصة التدريب المقرون بالتوظيف، وعلى الرغم من عدم تقبله للأمر لسببين هما عدم ضمان التوظيف وأنه سينتظم سنتين أخريات في مقاعد الدراسة، إلا أنني حثثته على انتهاز الفرصة قائلاً له: أنت جالس جالس فالأفضل أن يكون جلوسك بأمل قد يتحقق من أن يكون بيأس قد يرهقك أكثر، وإن لم تتوظف تكون قد كسبت خبرة في مجال قد يفتح الله لك باباً بسببه.

انتظم في التدريب وصبر عليه ومرت السنتان وصدق القائمون على موضوع التدريب المقرون بالتوظيف جزاهم الله خيرًا، وتم توظيفه في إحدى الشركات بعد إنهائه فترة التدريب مباشرة دون تأخير، ولله الحمد والفضل من قبل ومن بعد.

ما أريد أن أقوله هنا هو أن بعض ممن أوكلت لهم الأمانة لا يستشعرون الضغط النفسي والمادي للباحث عن عمل وأسرته، ربما مرد ذلك أنه كمسؤول لم يُعانِ من تلك المشكلة ولم تكن قريبة منه، ولهذا لا يضعها في حجمها الحقيقي، فأنا كمواطن لم استشعر المشكلة جيداً عندما طُلب مني المساعدة رغم تعاطفي معها، لكن عندما عايشتها كأب كان الوضع مختلفا كليًا.

ما أريد أن أقوله هنا هو أهمية المصداقية في الوعود وفي التصريح، فإن الوعود الكاذبة والتصاريح المستفزة هي من أقسى أنواع الضغط النفسي على الباحثين عن عمل، وينظرون إليها على أنها تتلاعب بهم وبأحلامهم ولهذا فهم يُستفزون بسهولة.

ما أريد أن أقوله هنا هو أن مطالبتنا للباحث عن عمل بالصبر لابد أن يُرسم مع ذلك الطلب خارطة وصول، أما الصبر المجهول الذي لا يُعرف له نهاية فإن ذلك من أصعب الأشياء التي يقاسيها الباحث عن عمل، فهو يتأمل أن يكون عاقبة صبره خير واضح وليس نفقا مظلما لا يعلم له بداية من نهاية.

ما أريد أن أقوله هنا هو أن بعض الباحثين عن عمل أخذوا بالمثل القائل "اركب الهزيل حتى تصل السمين" فلم ينتظروا تحقق حلم الوظيفة التي تمنوها، وإنما وافقوا على أيّ فرصة لاحت لهم، ومنهم من أسس لنفسه مصدر دخل حتى تفرج لاحقاً، وهذا ما أؤيده وكنت قد كتبت في ما مضى أن كثيرا من المواهب التي حباها الله لأبنائنا لا يستغلونها بسبب انتظار الوظيفة، بينما لو وظفوا تلك المواهب والقدرات لأغنتهم عن ذلك البحث.

ما أريد أن أقوله هنا هو أهمية أن تكون عمان في وجدان الأبناء سواء كانوا باحثين عن عمل أو على رأس العمل أو في مقاعد الدراسة، وعلى الآباء غرس ذلك في نفوسهم منذ الصغر، ولا يتعاملون معها من منطلق إن أعطوا رضوا عنها وإن منعوا سخطوا عليها، فعُمان تبقى الأم الحاضنة لهم على الدوام وهي تستحق منِّا الحفظ لها والمحافظة عليها.

أخيرًا.. ما أريد أن أقوله هنا أنه بعد العام 2011 عندما تم توظيف الباحثين عن عمل كنا نتوقع أن هذه المشكلة قد حُلت، وأنها قد حَلت عن واقعنا لأن التوظيف سيكون سلسا في السنوات التالية، لكننا فوجئنا بالأعداد الهائلة في 2021، وبما أن هناك توجه ملموس في التوظيف قد بدأ يؤتي ثماره فنأمل حقاً أن يستمر التوظيف أولاً بأول حتى لا تتراكم الأعداد مرة أخرى وتفاجئنا بما لم نتوقع في أعوام مقبلة.

تعليق عبر الفيس بوك