القارب الأبيض

 

عبدالله الفارسي

كنت جالسا على طرف الخور (الميناء) رفقة صديق عزيز من جيلي، فجأة سألني هل تذكر منذ سنوات بعيدة ذلك القارب الأبيض الذي ألقى مرساته هنا؛ وأشار إلى منتصف الخور، فألتفت إليه وقلت له نعم أذكره جيدًا، وكانت لي معه حكاية جميلة.

هذه القصة حدثت معي في العام 1991، وأتذكرها الآن كما أتذكر رسالة صديقي التي أرسلها لي منذ ثلاثة أيام يقول فيها: "أرسل لي مبلغ 40 ريالًا بسرعة أنا متوهق في صناعية الوادي الكبير، وإلا سأنام الليلة في ضيافة مركز الشرطة". فحولت رسالته إلى صديق آخر نطلق عليه "المُنقذ" فهو ينقذنا دائمًا حين نتوهق أو نتورط أو ننام في مراكز الشرطة!!

في صيف العام 1991 وأنا جالس كعادتي الدائمة على الشاطئ، أراقب الأمواج وأحصي عدد النوارس، وأوسوس مع شياطيني وأبالستي الذين يجرون في جسدي مجرى الدم في العروق، لمحت بزوغ قارب غريب يلوح من بعيد ويقترب رويدًا رويدًا نحو الخور، خور صور البحري.. اقترب القارب وأتضحت معالمه الغريبة وشكله الفريد، دخل القارب خور البطح العريق، ذلك الخور التاريخي الذي جعل من مدينتي مدينة أصيلة، وخلق من مينائها ميناء عريقًا، نقشته الصين في جدرانها وأرخته بريطانيا في أرشيفها، ذلك الخور الذي سرعان ما مات واندثر، وضاع كل ذلك التاريخ هباءً منثورًا ليصبح مقبرة للسفن الميتة ومردمًا للقوارب المنتهية الصلاحية ومزبلة للتاريخ العريق!

لفت نظري شكل القارب، كان جميلا رشيقا غريبا، لم يسبق لي أن رأيت مثله من قبل، فقررت الصعود على ظهره واكتشاف أسراره، والاطلاع على مفاتنه ومصافحة أصحابه.

بدا القارب من بعيد كأنه صغير الحجم، وبه سارية طويلة مطوية الشراع ولكن لحظة دخوله الخور واقترابه من الشاطئ اتضحت معالمه، وظهرت مفاتنه. لم يكن شراعه مرفوعا؛ بل كان يتحرك بمحرك له صوت منخفض يكاد لا يُسمع. شاهدتُ رجلا أبيض يحمل شعرًا طويلاً ويربطه كجديلة، كان يقف على مقدمة القارب ويربط رأسه بقماشة ملونة كأنه قرصان أسباني. ظللت أتابع دخول القارب بكل فضول كطفل أفريقي يُشاهد رجلا أبيض شديد البياض لأوَّل مرة في حياته. اختار القبطان مكاناً مناسباً في منتصف الخور فأوقف قاربه وألقى مرساته وأطفأ محركه، فقررت معرفة حقيقة هذا القارب واكتشاف لغزه.

في اليوم التالي، عرجت على محل البقالة الوحيد الذي في حارتنا واشتريت منه علبة بسكويت وعلبة شوكولاته، وتوجهت إلى خور البطح؛ حيث القارب الغريب.

وصلت إلى الخور، وطلبت من أحد الصيادين والذي كان على وشك الانطلاق في رحلة صيده المعتادة، طلبت منه أن يحملني إلى ذلك القارب الجميل القابع في منتصف الخور، فأوصلني الصياد إلى القارب.

فناديت بصوت مرتفع: Hi.. Hello

فخرجت فتاة شقراء من داخل القمرة، فابتسمت لي ابتسامة جميلة هادئة، قلت لها: هل يُمكنني الصعود؟ فرحبت بي قائلة: أهلا بك.

شكرت الصياد على توصيلي وقفزت فوق القارب كجرو رشيق.. أيام زمان كنت أقفز جدارا ارتفاعه مترين وأكثر بخفة قط ورشاقة ثعلب، رحم الله أيام الشباب وليتها تعود يومُا لأخبرها بما صنع المشيب!

سلمتُ على الفتاة الجميلة الشقراء، ثم خرج من القمرة ذلك الرجل ذو الشعر الطويل المجدول والذي كان يشبه القرصان، لكنه كان قرصاناً وسيمًا جدًا. فرحب بي وصافحني بيد ضخمة عريضة بحجم مغلاة السمك التي في مطبخنا، وهزَّ يدي حتى كاد أن يخلعها، فطلب مني الدخول إلى قمرة المركب.

حقيقة ذهلت من جمال القارب واتساعه، لم أتوقع أن يكون ذلك القارب الذي يبدو من بعيد صغيرًا ضئيلًا لم أتخيل أنَّه من الداخل بهذا الاتساع وبهذا الجمال وروعة التصميم. كان يحتوي على غرفة جلوس وثلاثة أسرة معلقة للنوم ومطبخ ودورة مياه، وطاولة طعام تتسع لأربع أشخاص، ومكتبة صغيرة ممتلئة بالكتب، يالهم من بشر، لا يستغنون عن المعرفة حتى وهم فوق الأمواج.

حقيقة أذهلني تصميم القارب ونظافته وطريقة تصميمه.

أصحاب القارب تركوني أمارس دهشتي كطفل مُشاغب دون أن يقطعوها، وبعد انتهاء الدهشة، انتبهت لضيوف مدينتي الغرباء، أعطيت الفتاة كيس الشوكولاته والبسكويت اللذين جلبتهما معي.

فشكرتني بعمق ومنحتني ابتسامة أجمل من الأولى التي قابلتني بها، تعرفت عليهما، ما زلت حتى اللحظة منذ العام 1991 لم أنسى اسميهما؛ الرجل كان اسمه "فلافيو" ولم أعرف معنى هذا الاسم، أما الفتاة فلم أنس وجهها الطافح بالجمال وعينيها الزرقاوين كزرقة المحيط، كذلك لم أنس اسمها، كان اسمها"اندورا"؛ حيث قالت لي بأن اسمها معناه "الضوء أو النور"، لقد كانت اسما على مسمى، كانت مضيئة بازغة كنجمة الشمال.

الرجل كان إيطالياً والفتاة كانت يونانية، التقى بها في أحد موانئ إيطاليا فقررت مرافقته وخوض هذه المُغامرة معه. جلستُ معهما ساعتين كاملتين، وبعد تلك الساعتين حرصت على زيارتهما كل يوم.

أخبرني القبطان "فلافيو" أنهما يقومان برحلة حول العالم بدأت منذ ثلاثة أشهر، وستستغرق 6 أشهر أخرى، انطلقا من ميناء نابولي بإيطاليا وعبرا كل تلك المساحات البحرية الطويلة الشاسعة حتى وصلا هنا، قررا التوقف هنا للراحة والتزود بالطعام والوقود وصيانة محرك القارب، ثم سيستأنفان رحلتهما باتجاه الشرق بعد عشرة أيام.

قاربهما كان يعمل على نظامين، كان إضافة إلى الشراع الطويل الذي يجري بالقارب بسرعة تتجاوز 60 كلم في الساعة حين تكون الرياح مواتية، كانت هناك مكينة حديثة تعمل بالديزل وتستخدم للضرورة.

طبعًا، طوال عشرة أيام، كنت أطلب من أمي الحبيبة الماهرة في قلي السمك بطريقة عجيبة، أن تجهز لضيوفي سمكا طازجا طيبا، كنت أحمله لهما كل يوم، حين كان كيلو السمك بمائتي بيسة!!

أذهلتهما كثيرًا طريقة أمي في طبخ السمك فأخذا يلتهمانه بشهية غير طبيعية لدرجة أنهما طلبا مني خلطة البهارات التي تستخدمها أمي في القلي بتلك الطريقة. كانا يتحدثان معي كعالمي بحار وكخبراء رياح وطقس وأمواج، وعلماء أسماك. فمن خلال رحلتهما القصيرة تلك تعلما كل الدروس؛ حيث حقنتهما الأمواج بكل الخبرات، وعلمتهما عظمة البحر الجد والطموح والشجاعة وغرست فيهما روح المُغامرة.

وفي اليوم السابع قبل سفرهما بثلاثة أيام عرض عليَّ القبطان فلافيو عرضاً سخياً غنياً ومفاجئًا، قال لي ذات بغتة ما رأيك لو رافقتنا في هذه الرحلة الجميلة؟ صدمني العرض وهزني وألجمني عن الكلام لم أتمكن من استيعاب الفكرة ولم أتوقعها أو أتخيلها حتى في أجمل أحلامي. لم استوعب جمالها وروعتها ولم أحتمل بريقها ولمعانها. حاول فلافيو إقناعي بالسفر معهما راسمًا أمامي كل الروعة والإثارة التي سأحظى بها ووعدني بالحصول على إقامة دائمة في إيطاليا إذا ما رغبت في ذلك. لا أظن أنَّ هناك شيئًا ندمت عليه أكثر من ندمي على رفض مرافقة فلافيو وأندورا.. لقد ضيعت فرصة عمر كان بالإمكان أن تقلب حياتي رأسًا على عقب؛ رحلة في قارب جميل يطوف حول نصف الكرة الأرضية.

ظللت طوال ثلاثة أيام في حالة من السهر والأرق أفكر في عرضهما، كنت في الثالثة والعشرين من العمر، غير متزوج، غير مرتبط، غير مُقيد، حر، وطليق كطائر القطرس الشجاع، ليس هناك شيء يربطني بالبقاء والاختناق والفناء والاندثار هنا.

كنت توًا متخرجًا في الجامعة، وجربت العمل سنة كاملة، لم يعجبني العمل أبدًا، لم أشعر بالحماس والشغف والمتعة في عملي، كنت غير محبٍ لوظيفتي بالمرة كارها كل ما فيها، فكان الظرف والوقت والمزاج مناسبًا جداً للهرب والفرصة مواتية جداً للنفاذ بجلدي والتحليق بعيدا كنورس غاضب.

كانت حالتي النفسية مُهيأة للهروب واكتشاف العالم من جهة البحر، لقد كنت بحارًا، ترعرعت على ظهر موجة، ونبتت عظامي من عظام الأسماك، واختلط دمي برحيق الأصداف وزغب القواقع.

لماذا فوت تلك الفرصة النادرة؟!! كيف ضيعت تلك المنحة الإلهية؟!

لو سافرت معهما لكنت سأكتب لنفسي ذاكرة زرقاء جميلة لم يكتبها سوى القلة القليلة من البشر.

كنت سأقول لأطفالي أنا سندباد بحري ماهر وشجاع، لقد عبرت نصف العالم في قارب صغير أبيض ورأيت أصنافا من الموانئ وأشكالاً من البشر. اللعنة على هذا الحظ الذي لم يتصالح معي أبدا.

ولماذا ألوم الحظ وأطعنه في ظهره، أظن بأنَّ كل قراراتنا كانت نابعة من ذواتنا، نحن من نصنع أنفسنا ونحن من نصنع حاضرنا ومستقبلنا، ونحن من نصنع قراراتنا، ونحن من أوصلنا أنفسنا إلى هذا الوضع المزري، وهذه النهايات السخيفة التافهة والمحطمة. كان بالإمكان أن نصنع لأنفسنا نهايات عظيمة لامعة، وشامخة، إننا نملك كل الإمكانيات العقلية لنصنع لأنفسنا بدايات جليلة، ونبني لحياتنا نهايات باسلة ولكننا للأسف نفتقد القدرات العصبية لتحقيق ذلك.

السبب الرئيس في عدم الهرب معهم هو أنني لم أكن أملك الشجاعة الكافية لاتخاذ قرار بذلك الفوران وبذلك الاشتعال. لم نعتد على اتخاذ قرارات شجاعة جريئة حازمة كما فعل "فلافيو" ذو السبعة وعشرين ربيعًا.  لم نتربَ على اتخاذ قرارات صاخبة من تلك النوعية التي تخلق من الرجل رجلا حقيقيا وتصنع منه صاحب قرار لامع بهذا الحجم وبذلك الضجيج.

ماذا سأخسر لو تقدمت بإجازة سنة أو سنتين وهربت مع فلافيو واندورا، وجبت العالم معهما على ظهر قارب شراعي يُعانق الشمس ويحتضن الرياح ويرافق الدلافين.

ما المشكلة لو قدمت استقالتي وفور عودتي إذا قررت العودة سأبحث لي عن عمل آخر ووظيفة أفضل وأجمل من العمل في مدرسة تعيسة استهلكت جهازي النفسي وأتلفت جهازي العصبي!

تخيلوا حجم المتعة والجمال ومقدار الخبرة التي سأكسبها لو رافقت ذالكم الشابين في رحلتهما العجيبة تلك. لم أكن أعلم بأنني سأخسر أمي وأبي بعد ست سنوات من ذلك العرض الفريد الذي قدمته لي الحياة، لم أكن أعلم بأنني سأفقد أمي وأبي في سنة واحدة وأعيش بدونهما زمنا طويلا مملا وخانقا ومؤلما.

يوم مغادرة فلافيو وأندورا مدينتي، صنعت لهما أمي طعامًا بحريًا محليًا، عبارة عن كمية من سمك القرش المجفف وصندوقا من سمك التونة المملح مع ورقة شرحت لهما فيها طريقة طبخهما، وخمسة كيلوجرامات من البهارات المحلية التي مزجتها أمي بطريقتها الفريدة. ففرحا بهذه الهدية فرحا شديدا وشكراني ببهجة وسرور ودموع.

صافحت "أندورا" الجميلة المشرقة وعانقت "فلافيو" القبطان الوسيم، وودعتهما.

رفعا شراعهما الأبيض الطويل وأنطلقا ترافقهما النوارس وتعانقهما الأمواج، تابعت اختفاء القارب حتى التهمه البحر وابتلعه الضياء. لم أشعر إلإ بدمعتين دافئتين تسكنان فوق خدي مسحتهما بهدوء وصمت وعدت إلى مزاولة شقائي المعتاد.

ومنذ ذلك الحين وأنا أتعهد الشاطئ صباح مساء أرقب المحيط لعل قاربًا أبيض يشرق من جديد ويأخذني بعيدًا من هنا؛ حيث كثير من الخلجان وكثير من البلدان وكثير من النسيان!!