"بَيضة الديك"!

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

أهدَى خبازاً ليتيمٍ ذات يومٍ كعكةً، فضجَّ ضجيجُ سُكَّانِ المدينة، كيف ليتيم أن يُشاطَرَ هدية، وتهنأ نفسه وتطيبُ بقضم كعكٍ ساخن، دونما أن يُشاركه حبيب. "إنها وقاحة اليُتم المُعدم"، هكذا قالوا ولسانُ حالهم يرددُ: يأكل ما لذَّ وطاب دون حسيب ورقيب.. ويا عجبًا!!

وهذه حالُنا تمامًا "عالمٌ ثالث" يتيم، لكنه غير مُعدَم، مُثقل بديون لثلةٍ رأسمالية جشعة، رهينة اقتصادات كوربوقراطية "شرهة"، تسيطرُ فيها الشركات سيطرة مطلقة لأغراض وأهواء سياسية، تنطبق تمامًا على "الاقتصاد الأمريكي"؛ حيث اليوم لا يحكم أمريكا أحزاب وطنية أو تمثيل سياسي أو فائز بانتخابات نزيهة، بل قوة السلطة المالية هي التي تَحكُم فعليًّا، عبر شركات متعددة الجنسيات MNC أو MNE، وهي من يُحدِّد بؤر النزاع والعقوبة والمديونات، وتفرض التعاملات المالية الدولارية، ضِمن شبكة مُعقَّدة، وعمليَّات حسابية مُوسعة، تنتشر في مختلف بلدان العالم.

شركات كبرى تُشكل عصبَ اقتصادِ الولايات المتحدة، وقاعدتها الذهبية هي تحقيق الرفاهية لشعبها؛ لذا وجب حماية مصالح هذه الشركات في بلدان "العالم الثالث" بكل السبل، دون توانٍ أو إمهال، بل وإنْ تطلبت الحاجة شرعنة التدخل العسكري تحت أي ذريعة، بهدف الدفاع عن النفس في الظاهر وصون الأموال وتنميتها في الباطن قبل أي شيء.

ويُصاغ مفهوم "الدفاع عن النفس" للأسباب مُحكمة، ويُضفي شرعيته على كل عمل عبثي، وأي فوضوية تؤول إلى تدخل عسكري؛ فـ"الدفاع عن النفس" نصير الضعفاء الأبرياء، القابعين في ديارهم.. فانقسمت الأحزاب السياسية الأمريكية، وإن تخاصمتْ علناً تبقى متفقة ضمنًا على إسعاد وإرضاء من يملكون البلد "المستثمرين"، و"الشركات متعددة الجنسيات"، فأي اعتداء سيبرَّر للشعب الأمريكي على أنه "دفاع عن المصالح"، وأي رأي سياسي يخالف رأيهم سيُعدُّ حماقة؛ لذا فلا غرابة أن يُطلِق رئيس أمريكا الأسبق ريجان تعبير "إمبراطورية الشر"، ومن بعده بوش الابن: "محور الشر".

يمتد هذا التشابك الأخطبوطي بين الإدارة الأمريكية والشركات، لاحتواء الدول داخل نظام عالمي اقتصادي يتحكَّم بالقطاعات المالية والصناعية، والتي ترتبط بشكل مباشر بتلك الشركات مثلما حدث مع فتح الاستثمار الأمريكي في دول أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية؛ مما خلق سوقا تنافسيا حاداً، انتهي بإعلان الرئيس الأمريكي نيكسون تغيير نظام الاقتصاد العالمي، وربطه بالدولار، فأصبحت الولايات المتحدة هي "البنك الدولي"، والدولار هو العملة العالمية الوحيدة.

لم ولن يتوقف الأمر عند السيطرة والتحكُّم والإغراق بالمديونة، بل قد يصل لقلب النظام والغزو والاغتيال إذا لم تسِر البلاد وفق خطط اقتصادية مرسومة، مثلما حدث مع رئيس جواتيمالا المنتخب؛ الذي أعلن برنامجا للإصلاح الزراعي يهدد مصالح شركة "يوناتيد فروت" الأمريكية المسيطرة على مزارع أمريكا الوسطي في "كولومبيا" و"نيكاراجوا" و"كوستاريكا" و"جامايكا" و"سانت دومينجو" و"جواتيمالا" و"بنما"، فما كان من شركة "يوناتيد فروت" إلا أن شنَّت حملة شعواء "أرينز"، مُتهمة إياه بالتآمر مع "الاتحاد السوفييتي" السابق على مصالح أمريكا، فهرع فريقٌ من "سي.آي.إيه" في العام 1954 بتدبير انقلاب على الرئيس المنتخب، واستبداله بديكتاتور متطرف -"كارلوس أماس"- الذي ألغى بدوره الإصلاح الزراعي والضرائب على الاستثمار الأجنبي فورًا.

كما نالت بنما نصيبها من الغزو والاغتيال؛ عندما تجرَّأ رئيسها "عمر توريخوس" على رفض الهيمنة الأمريكية، وسعى لفرض سيادة بلاده على مصادر النفط؛ فكان الاغتيال في حادث طائرة مُدبَّر عام 1981م.

والقائمة بعد ذلك تطول.. فذاك محمد مصدق رئيس إيران المنتخب، الذي أدخلت إدارته إصلاحات اجتماعية وسياسية واسعة؛ شملت: الضمان الاجتماعي، وتنظيم الإيجارات، واستصلاح الأراضي، إلا أنَّ حركة تأميم صناعة النفط الإيرانية كانت القشة التي قَصمته في 1953م، حيث كان البريطانيون يسيطرون على هذه الصناعة عبر شركة النفط الأنجلو-إيرانية التي سُمِّيت لاحقاً شركة النفط البريطانية أو "بي.بي".. فتسبب قرار التأميم في إزاحته بانقلاب عنيف، شاركت فيه المخابرات الأمريكية والبريطانية في عملية مشتركة سميت "أجاكس".

ولا أظن عاقلا اليوم لا يزال يؤمن بفكرة "التجارة الحرة"، بل هي احتكارٌ للمستقبل لصالح منظمة/ شركات أمريكية؛ بحيث يكون لها مُطلق الحرية في الدخول للأسواق واستغلال الموارد واحتكار التكنولوجيا والاستثمار والإنتاج العالمي. تُطالب هذه الشركات بحقوق الملكية في مجال الدواء والزراعة بالمجان وتجني من وراء ذلك الأرباح الطائلة، بينما يدفع فقراء هذه الدول النامية الثمنَ.

وهكذا دُوَاليك.. ليستمر تفرعُن "الديك" الأمريكي، نافشًا ريش رأسماليته الجشعة، وراهناً بيض العالم لاقتصاد كوربوقراطي، بينما يتحتم على دول "العالم الثالث" أن تُتخِم شِراه الديك النهم، والذي في نظرهم حقَّق مُعجِزةً تُخالف كل سنن وقوانين الطبيعة بأن باض بيضة مجانية.. وهو ما يستدعي انتباهة واستيقاظة على صوت "ديك" بات مطلوبًا هذا الصباح وبقوة "تقليم ريشه"، كي لا تبُور "تجارة الأمان"، فلا يتواقح المُعدَم ويطلب من دقيق غيره خُبزاً.. فـ"الكعك في يد اليتم ليس عَجَبة".