فلسفة الملح

 

سعيدة البرعمية

هناك بين السطور، في صفحات كتاب العيون، قرأت ظلمات وظلمات وبعض النور، عاينتُ تنمّر الظلام، واضطراب الضوء باهتا يخشى الظهور. رأيتُ عينيّ تجتاحان أحد السطور، تُحملقان في بؤبؤ تائه في انسلاخ العتمات يبحث عن بصره حتى غشاه النعاس، فتدثّر بجفنيه ودخل في سبات.

كان النور ضئيلاً فاعتذر لي عن الوصول، رمشتْ عيناي وتفتلّتْ أهدابها؛ فأغلقتُ الكتاب ومضيتُ بعيدا أبحثُ عن شموع.

على طاولة ما، وجدت شمعة مُضيئة تحيطها علبتان من السكر والملح، فشدّني ضوؤها الحالم، تأملت المادتين المتشابهتن، لوناً وشكلاً رغم اختلاف المضمون، جالت بذهني بعض الأقاويل.  

فعندما يريد أحدهم أن يطري شيء ما، يقول: "سكر" وعندما يريد أن يبرز مدى قدرات شخص، يقول: "هو مِلحهم".

"فلان ملح إخوانه" عبارة ترددت كثيرًا على مسمعي، بمعنى أنه أفضلهم.

هل أنت سكر أم ملح أم أنك آجن أومشبّع بأحدهما دون الآخر؟

تأمل المادتين ذكرني بأغنية مشبّعة بالأسى، كنت قد سمعتها في مرحلة ما من عمري، لم تكن كلماتها تجذبني وقتها، بقدر ما يجذبني لحنها بصوت الراحل طلال مداح.

اليوم يمكن تقولي يانفس إنك سعيدة

يشهد على صدق قولي دقات قلبي الجديدة

تسعة وعشرين عاما ضاعت وسط الزحام

ليلي ونهاري وقلبي أصبح يحبّ الظلام

بيتان للشاعر لطفي زيني، هذه الأغنية من الأغاني الخالدة، للراحل طلال مدّاح - رحمه الله - أطربت الكثيرين قديمًا ومازالت تأسر المسامع، وهي برأيي تختصر فلسفة الحياة بين السعادة والشقاء، بأبيات قليلة تجمع بين سهولة اللفظ وقوة الدلالة وصوت خالد.

واضح أنَّ الأسى قد اجتاح حروف تلك الأغنية، وألقى بها في مخارج حروف صوت الأرض، بطابعه المميز عن جميع الأصوات؛ فالشاعر بعد مرور تسعة وعشرين عامًا من الشقاء أخذ يحدّث نفسه، ويقول: "اليوم يمكن تقولي يانفس إنك سعيدة"، فهو ليس متأكدًا من سعادته أو أنه يخاف زوالها وهذا ما تفسره كلمة "يمكن" فالأغنية زاخرة بالأسى الممزوج بفلسفة النغم الأصيل.

ما الأقدار إلاّ محاليل مشبعة بالسعادة أو بالأسى أو بهما جميعًا بنسب متفاوتة، فإذا أردنا أن نرمز للأسى بالملح وللسعادة بالسكر، ونحاول أن ننتج من كلا المادتين محلولا آخر بوضع كمية متساوية منهما، في كأس من الماء ونمزجهما معًا، فسينتج عنهما محلول آخر مذاقه آجن.

كان درس العلوم صعبًا، اقترن فهمه بتلقين التجربة، أيقنت فيما بعد أنه ثمة اختلاف بين ملح المختبر وملح الحياة، فهناك ملح لا تجرؤ تجربة المختبرعلى  فصله عن كأسه!

ومع ذلك هناك كؤوس مشبّعة بالصبر والتحدّي؛ فكانت كلما بادرت الأقدار وعزمتها على كأس من العناء وأجبرتها على شُربه، بادلتها فعلتها وأثبتت لها مدى كرمها؛ فتعزمها على كأسين آخرين، صبر وتحدٍ مما يجعلها تطلب التهادن معها، وتتنحى جانباً بانتظار فرصة مواتية.         

كما قابلت أقداحا يملأؤها الماء العذب، فهي لا تقبل أن يختلط بها ما يُغير لون مائها أو طعمه أو رائحته وتظلّ محتفظة بعذوبته.

قال الفيلسوف الألماني هيجل: "إن التاريخ عملية طويلة مقدرة بقدر، يأخذ فيها كلّ طرف مكانه ومبرراته". ويرى هيجل أن روح العصر تؤثر على الأفراد وتحقق من خلالهم إنجازات محقق ظهورها في زمانها رغماً عن الإرادات الفردية لأفراد تلك المرحلة. ويتابع هيجل فلسفته بقوله: "وما إن ينتهِ دور تلك الشخصيات وكفاحها من أجل تحقيق الغايات الكونية لروح العصر، حتى تختفي من مسرح التاريخ  دون أن تُحقق سعادتها الخاصة".

برأيي أنَّ صاحب الألقاب المميزة (فيلسوف النغم الأصيل، صوت الأرض، قيثارة الشرق، فارس الأغنية السعودية) قد أوصل لي درس العلوم قبل أن أعرف المحاليل والمختبرات من غير وعي أو إدراك مني في ذلك الوقت، كما استطاع بفلسفة نغمه أن يُشبع مسمعي بدلالة عبارة هيجل عن السعادة، بطريقة ممتعة ومبسطة دون الخوض في فلسفة هيجل وجدليته.