هدايا

 

فاطمة اليمانية

"أين هي براءة العمر الأول؟ عندما كانت الأشياء سهلة وبسيطة، وطمأنينة النفس تأتي دون تعب ولا تعقيد".. بهاء طاهر.

*****

سألتنا:

  • هل رأيتنّ إيمان؟!

وفي كل مرّة كانت تسألنا نردّ عليها:

  • لم نرها..
  • تعتقدن أنّها خُطِفت؟! قُتِلت؟!
  • لا نعتقد شيئًا يا خالة.. عودي إلى منزلك، ونامي!

كانت الخالة "صفية "مُصابة بمرض في عقلها، لكنّنا لا نصفها بالجنون، لأنّ معظم تصرفاتها تبدو لنا طبيعية، عدا ادّعائها أنّ لها ابنة اسمها: "إيمان" خرجت من المنزل، ولم تعد!

وكانت تسأل كل من تقابله عنّها؛ فيرّدون عليها:

  • لم نرها!

فتقتنع بهذا الردّ، وتعود إلى منزلها..

وذات هوس، قلتُ لها، عندما كنّا نلعبُ أنا وفتيات الحارة أمام منزلنا:

  • هل رأيتن إيمان؟!
  • رأيتها اليوم في الدّكان.

فاقتربت منّي، وحدّقت في وجهي، وبدأت تسأل بلهفة عن إيمان، وجذبتني من يدي:

  • أي دكان تقصدين؟ خذيني لها؟ كيف كانت تبدو؟ نظيفة أم قذرة؟!

كانت أسئلتها أشبه بأسئلة أمّ فقدت طفلتها، وترغب بالفعل في رؤيتها!

ولولا تدخل والدتي، لما استطعت الإفلات منّها..

لكنّني لم أسلم ليلتها من توبيخ أمّي:

  • ألم أنبهك إلى عدم الاقتراب منها!
  • هي من كلمتني أولاً!
  • إنّها مريضة، وجميع من في الحارة يردّون على سؤالها بنفس الردّ، فتمضي في سبيلها، إلّا أنتِ!

ألقيت جسدي على سريري، وتناومتُ حتّى تبتعد أمّي عنّي، والحمدالله أنّ أبي كان مسافرًا، وإلّا كان التوبيخ مشتركا!

وعندما خرجت أمّي، وأغلقت الباب، تأملتُ السّقف الأبيض، حيث تساقط المزيد من الصبغ، وظهرت الكثير من البقع الرمادية اللون، اتّخذت أشكالا مختلفة لوجوه قبيحة، وأخرى تشبه أشكال الشياطين، وبعض البقع كانت تشبه الحيوانات، وأخرى كالطيور!

فبدأت أحسبها من الجهة اليمنى، حتّى وصلت للمنتصف، للمنطقة الّتي تعلو رأسي تمامًا، حيث كانت أكبر بقعة على هيئة شيطان، بل كانت تشبه جارتنا "صفية"!

أغمضت عيني، ثم فتحتها؛ لأتأكد من وجه الشبه بين البقعة، وجارتنا!

فعلا تشبهها.. وجه صفية بأنياب وقرون!

وبدأت أنادي على شقيقتي هالة، الغارقة في نوم عميق:

  • هالة.. هالة!

لكنّها كانت تغطّ في نّوم عميق، ثم حركت رأسي ببطء شديد، وأدرته جهة شقيقتي "نورة" فلم تردّ هي الأخرى على ندائي، الّذي اتخذ شكل الفحيح من أسفل الغطاء!

مرّت ساعة من الرّعب، وكلما رفعت الغطاء، رأيت البقعة، أو "شيطان صفية" يبتسم لي..

ثمّ فكرت، هل سيظل طوال اللّيل يبتسم؟! ومتّى سيهجم عليّ ليلتهمني!

فشعرتُ ببرودة تسري في أطرافي، وكأنّ أحدا جذب الغطاء؛ فتكوّمت على نفسي، معتقدة أنّ الشيطان نزل من السقف، وبدأ يجذب الغطاء، ثم سمعت صوت الباب وهو يُفتَح، فوقف شعر جسدي من شدّة الرّعب، وأحسستُ بيد تبعد الغطاء من على وجهي، وكدت أموت رعبا لولا سؤال أمّي الّتي تفاجأت بأنّي مستيقظة وخائفة:

  •  رأيتِ كابوسا في نومك؟!
  •  شيطان صفية يا أمّي!

أخرجتني أمّي من الغرفة، وجلست قربي، وحدّثتني عن طفولتها، وعن المراكب الّتي تأتي من إيران محملة بأنواع الحلويات، والمكسرات، والتين، والخوخ المجفف، والزعفران، وعن سوق صحار، وعن بيت جدّي القديم، وأشياء كثيرة أنستني الرّعب والخوف.

وتركتني أنام في غرفتها، وفي الصباح الباكر، تساءلت شقيقتاي عن سبب مبيتي في غرفة أمي؛ فقلت لهن:

  • كانت أمي خائفة، فطلبت منّي المبيت معها!

فشعرت شقيقتاي بالغيرة، وطالبتا بالمبيت معها هذه الليلة، ولم أعترض، فالنّهار في أوله، ولن أعدم حيلة للمبيت مع والدتي، حتّى يتلاشى الخوف من قلبي تماما! أو يعود والدي ويصبغ السقف!

ثمّ خرجتُ للعب مع صديقاتي على شاطئ البحر، فقالت لنا ابنة جيراننا وفاء:

  • ذهبتُ بالأمس مع الخالة صفية إلى غرفتها، ورأيت صندوقا مليئا بالحلويات والألعاب، والدّمى، وأعطتني كيسا كبيرا.

ثم مدّت يدها أمامنا، وقالت لنا:

  • انظرن هذا الخاتم، هدية منّها!

كان خاتما معدنيا مطليا باللّون الفضي، ومرصّعا بقطعة مستديرة من الزجاج الأحمر اللّامع؛ فشعرت بالغيرة منها، ليس فقط من حصولها على الخاتم؛ بل من شجاعتها في الدخول إلى مكان مرعب كغرفة صفية.

وتمنيت لو أرى صفية لأذهب معها إلى غرفتها، وفعلا أقبلت صفية، واقتربت منّا، وسألت سؤالها المعتاد:

  • هل رأيتن إيمان؟
  • أنا إيمان!
  • أنتِ إيمان؟!
  • نعم يا أمّي..

نظرت إليّ دقيقة تتفحص ملامحي، وكأنّها في حلم، أو تريد معرفة ماذا تفعل بالضبط؟ بينما كنت أنتظر منّها أن تأخذني إلى غرفتها؛ لأحصل على مبتغاي.

فقلت لها:

  • هل نذهب إلى غرفتك يا أمّي!
  • نعم..

وأمسكتُ يدها دون أيّ اكتراث لتحذيرات أمّي، أو نظرات الدّهشة الّتي اعترت وجوه صديقاتي.

وفي الطريق، اعترضتني إحدى الجارات، وجذبتني بقوة من يدي:

  • عالية.. اذهبي إلى المنزل حالا.. هيا اذهبي!

عدت إلى المنزل، وأسرعت للاستحمام، ثم جلست مع شقيقتي؛ لتناول العشاء، وسمعنا صوت جارتنا وهي تستأذن للدخول؛ فنهضت أمّي لاستقبالها، فأخبرت أمّي عن رؤيتها لي وأنا مُمسكة يد صفية.

احمّر وجه أمّي غضبًا، وقالت لجارتنا بأنّي عنيدة، ونادت عَلَي؛ فنصحتني الجارة مرة أخرى بعدم الاقتراب من صفية، وأن أكون بنتاً مطيعة، ثم ناولتني كيسا من الحلويات، وقالت لي:

  • هذه الحلويات لكِ يا عالية.. هيا اذهبي وأكملي عشاءك وكوني فتاة مطيعة.

خرجت جارتنا، وجلستُ في زاوية الغرفة وأمامي كيس الحلويات، فاقتربت منّي نورة، وسألتني:

  • من أحضر لك هذا الكيس؟

فأردت أن أظهر بمظهر البطولة؛ وقلت لها:

  • الخالة صفية.. ذهبت معها إلى غرفتها وكانت مليئة بالحلويات، والألعاب، والفساتين الجميلة، والدمى ذات الشعر الطويل، ونسجتُ من خيالي صورا لشقيقتي الصغيرة؛ حتّى تمنّت لو أنّها كانت معي.

في الصباح الباكر، استيقظتُ على صراخ أمّي، ورأيت خالي يحمل شقيقتي نورة بين ذراعيه.

وفهمت أنّ نورة خرجت من الصباح الباكر قاصدة غرفة صفية، فأخذتها صفية؛ لتغرقها في البحر كما سبق وفعلت مع ابنتها إيمان! وصادف خروج خالي للعمل في تلك اللحظة، فرأى صفية في البحر، ومعها طفلة صغيرة؛ فأسرع لانتشالها.

تمّ إسعاف شقيقتي، وانشغلت أمّي بزيارة الأهل والجارات عنّي، وكانت أحيانًا ترشقني بنظرات غاضبة، ومتوعدة!

لكنّها لم تخبر والدي شيئًا عندما عاد من سفره، ونورة كذلك لم تتكلم!

وأنا أيضًا كنت فتاة عاقلة، ومهذبة فترة من الزمن، ولم أخبر أي أحد عن أي شيء، حتّى شقيقتي لا تعرف أنّني غررتُ بها، وكادت تخسر حياتها بسببي!

حيث بدأت الكذبة من ابنة الجيران، ثم أضفتُ عليها المزيد من الكذب، وأفرغنا أكاذيبنا في دماغ نورة الّتي صدّقت، وخرجت راغبة في الحصول على حصتها من هدايا صفية.

     بعد هذه الحادثة، انتقل شقيق صفية إلى مكان بعيد هو وعائلته، بعد أن أخذ صفية إلى مستشفى الأمراض العقلية؛ ضاربًا عرض الحائط بوصية والده بأن تظلّ شقيقته معه؛ حتّى لا يصفها الناس بالجنون!

 

(النهاية)

تعليق عبر الفيس بوك