الماراثون

 

عبدالله الفارسي

"أصبت بنوبة قلبية وأنا في السادسة والأربعين. لكنني كنت لأندهش عجبًا لو لم يحدث ذلك!) تاركوفسكي.

--------

لم يسبق لي أن زرت مدينة مسقط أو عرفتها قبل العام 1986، لم أرَ وجهها قبل ذلك العام ولم أرَ عيونها ولم أغازل جفونها. وذات مساء مُظلم في يوم من أيام شهر أغسطس من العام 1986، أنزلني صاحب سيارة الأجرة أمام دوار المستشفى العسكري، وقال لي: من هنا الطريق إلى الجامعة ثم هرب عني.

وقفت وحيدًا يقظًا كرائحة بن مُحترق مستقيمًا كصارية سفينة برتغالية قديمة. وقفتُ منتظرًا ساعتين كاملتين،  لم يقف لي أحد ليحملني إلى الجامعة، رغم مرور الكثير من السيارات، لكنهم لم يقفوا لي ولم يكترثوا بتلويحاتي الكثيرة وقفزاتي العديدة، ربما لا يوجد بشر في تلك السيارات التي كانت تعبر من أمامي. هل لأنَّ الظلام كان مُخيمًا على المكان في تلك اللحظة؟ هل في الظلام تنتشر الكائنات الليلية كما أخبرني المؤمنون بالظلام؟! هل في الظلام ينطفئ الإنسان كما أفصح لي بعض المعتقدين بالنور؟ لا أعلم!

لا أعلم حقيقة لماذا لم يقف لي أحدهم في ذلك المساء الجميل المظلم، رغم أنني كنت أقف في مكان كانت تنغرس فيه مصابيح مضاءة، إضافة إلى مصابيح المستشفى القريبة والتي كانت تصدح بالضوء والنور والشفاء.

تأكدتُ بعد هذا الموقف أن هذه المدينة الموحشة ليست كمدينتي التي جئت منها؛ فالمدن كالبشر تتباين فيما بينها. هناك مدن رقيقة حميمة رحيمة وهناك مدن جافة قاسية مُوحشة لا ترحم لا أحد يشعر فيها بالآخر أبدًا. ولا أحد يرى الآخر الذي أمامه. ولا أحد يكترث بأحد هكذا شعرت من الوهلة الأولى. وهكذا اكتشفت فيما بعد!!

حملت حقيبتي الثقيلة، لا أعرف ما بداخلها ولم أسأل أمي ماذا وضعت فيها. لكنها كانت ثقيلة، ثقيلة جدًا على رأسي الصغير المعبأ بالفراغ والهواء والأماني الصاخبة.

حتمًا ملأت أمي حقيبتي بالبركات والدعوات العظيمات. هكذا أمي دائمًا تكنز حياتي بالدعوات. ولم يتحقق شيء من أدعيتها حتى اللحظة سوى دعاء واحد وهو أنني ما زلت أعيش حتى اليوم وما زلت أتنفس بعد موتها بستة وعشرين عامًا.

وضعت حقيبتي على رأسي كمهاجر أثيوبي يقطع الجبال ليصل إلى أقرب مدينة سودانية آمنة. غرستها فوق رأسي كقدر محتوم، ومشيت إلى الجامعة..

قطعت 13 كيلومترا على ما أظن أو أكثر، حتى وصلت إلى داخل الجامعة. لستُ مُتأكدًا من المسافة من دوار المستشفى العسكري إلى داخل الجامعة. احسبوها بأنفسكم حين تعبرون ذلك الطريق يومًا ما! وتذكروا أن من هنا مشى شاب يحمل حقيبة ثقيلة مملوءة بالدعوات فوق رأسه إلى الجامعة.

مشيت كل تلك المسافة فكان هذا أوَّل ماراثون لي في حياتي الجامعية. حين وصلت كان الوقت متأخرًا فلما رآني مشرف السكن وأنا بتلك الهيئة المُبعثرة بحلق عينيه ثم ضحك، وقال: ظننتك شبحاً من الأشباح التي تهبط ليلاً من هذه التلال المحيطة بالجامعة. فبادلته الضحك وقلت له: "لا لا. أنا شبح بحري قادم من المُحيط. خارج من أفواه الدلافين. سائل من خياشيم الحيتان!! جسدي قطعة ملح صلبة. وجلدي جلد سمكة مُخيفة انقرضت منذ مليون سنة". فتح المشرف فمه كغراب أفريقي، وسلمني مفتاح غرفتي وخارطة الطريق إليها.

فور وصولي باب غرفتي وضعت حقيبتي أمام الباب ونسيتها حتى الصباح لأنني رميت جثتي على السرير ونمت كحمار عربي أصيل منهوك الجسد مجلود الظهر مسلوب الحقوق.

في اليوم الثاني نهضت نشيطًا كفلاح أفغاني وكأنني لم أمشِ 13 كيلومترًا في اليوم السابق، وفوق رأسي حقيبة بوزن كيس أسمنت من نوعية أسمنت عمان المميز عالي الجودة!!

بدأتُ رحلة التجول والاندهاش، أخذتُ أتجول في أروقتها مندهشًا من بنائها، مأخوذًا بهندستها، متسائلاً عن تكلفة بنائها. وحين أخبروني لاحقًا عن تكلفة بنائها لم أعرف كيف أكتب الرقم. حاولت أن أكتبه أكثر من مرة ولم أفلح. ولم أتمكن حتى من نطقه بشكل صحيح. وما زلت حتى اليوم أعجز عن كتابة الرقم ونطقه!!

المهم.. مضت أربع سنوات بسرعة عجيبة، تخرجت في الجامعة شخصًا آخر تمامًا مختلفًا عن ذلك الطفل الذي أرسله والده ليتعلم ماذا بعد حروف الهجاء، والذي قطع 13 كيلومترًا مشياً على الأقدام ليسجل اسمه كطالب في قسم الفلسفة.. بمعنى أكثر بياضًا. لقد شعرت بأنني تغيرت تمامًا. وأصبحت رجلاً ناضجًا واعيًا لدرجة مزعجة تستدعي الحذر وتتطلب التوجس!

في آخر يوم لي في الجامعة طلبت منِّا إدارة السكن تسليم غرفنا والمُغادرة خلال 24 ساعة. فهناك قادمون جدد للسكن وأطفال صغار سيسكنون في غرفنا!

فقررتُ أن أخرج من الجامعة بنفس الطريقة التي دخلتها في اليوم الأول. قررت الخروج مشيًا على الأقدام حتى دوار المستشفى العسكري. والعودة إلى مدينتي في سيارة أجرة كما جئت في ذلك اليوم قبل أربع سنوات.

زملائي عارضوا الفكرة. وبعضهم وصمني بالحُمق. قلتُ لهم: وما الضير إن كنت أحمقًا؟! ألم يُحقق الحمقى المعجزات في هذا العالم!!

انظروا إلى الأغبياء والحمقى إلى أين وصلوا. انظروا ماذا حققوا!!

"ليتني كنت أحمقا كبيرا مثلهم"!!

قررت تنفيذ قراري وممارسة الحمق بكل قناعة.

قلت لهم خذوا حقيبتي العظيمة معكم، فرأسي الآن مليء بالأفكار والوساوس والأحلام، ولا يستطيع أن يحمل أحمالا إضافية. رأسي الآن يختلف عن ذلك الرأس الصغير الخفيف المجوف قبل أربع سنوات. حملوا حقيبتي في سيارتهم وسبقوني إلى مدينتي. جلستُ انتظر خيوط المساء. جلست انتظر نفس الوقت الذي وقفت فيه أمام دوار المستشفى العسكري قبل أربع سنوات، الساعة السابعة مساءً. وحين أظلم الليل وأرخى سدوله تحركت. وقفت للحظات أمام المدخل الرئيس للجامعة، وشيعت نظرة أخيرة على المكان الذي سلخت فيه أربع سنوات من شبابي. ثم واصلت طريقي إلى الشارع الصامت رفقة مجموعة هائلة من المصابيح الكئيبة والحشرات المتهافتة على ضوئها. وانطلقت بأقدامي العزيزة إلى النقطة المحددة. 13 كيلومترا وربما أكثر. لم أتأكد منها!

قبيل التاسعة بقليل وصلت إلى الدوار. وصلت مرهقًا متعبًا، فوقفت منتظرًا سيارة ذاهبة إلى الشرقية. كنت متعبًا مترنحًا فبحثت عن صخرة تتسع لمؤخرتي وجلست عليها كسكير يحلم بنصف زجاجة يكمل بها ليلته.

لقد كان ماراثون الإياب، ورحلة الوداع الأخيرة لمكان قضيت فيه أربع سنوات وكأنه عقوبة سجن إجبارية. لم أستمتع بهذه التجربة أبدًا ولم أشعر فيها بأنني فعلاً كنت في "جامعة" أو في مؤسسة علمية تمنحك الإثارة وتغرس فيك الفكر والعلم والفضيلة والنبوغ ومتعة المعرفة!!