مسقط بعيون بشرى خلفان

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

"دِلْشَاد" (أي: فرحان)، الذي لم يَعْرِف معنى الفرح والشبع إلا مرَّات معدودات، ظاهِرُه يشي بشخصيةٍ ضحوكة، لكنه قليلُ الحِيلة مليء البؤس من وراء الحُجب عن النَّاس.. ويكَّأن ضحكاته رسائل تهكُّم في وجه الجوع والجزع، بل والخوف والقلق والترقب.

هكذا أرادت الرَّائعة بُشرى خلفان أن تكون ملامح وطبائع الشخصية الرئيسية لروايتها المذهلة "دِلْشَاد"، التي جمعت بين صفحاتها الـ494 سِيرة تناقضات عدَّة، جُوع وشبع، اطمئنان وهلع، فرح وترح.. ناسجةً روايةً من الوزن الثقيل في المحتوى، والخفيفة على النَّفس التواقة لمجاهيل غامضة تسمع عنها ولا تراها. فتدلف بك "دل" (أي: القلب في "الفارسية" و"الأوردو" و"البلوشية") إلى قلب حواري مسقط القديمة قبل قرن من الزمن، مضمِّنةً كلُّ فصلها أسماء لشخصيات ترتشف من معين الذكريات سيرة مدينة مسقط بحاراتها، وطبقاتها، والأعراق والثقافات المختلطة، والتي قدَّمت أنموذجًا رائعًا في التلاحم كرقعة كبيرة من النسيج الوطني، وكل قسم منها ارتحل عبر عصور غابرة، جالت البحار، وحطت في قلب مسقط وقلب "دِلْشَاد".

يطحن الجوع الإنسانية، ويجرده من إسمال الآدمية، فيجحد ذاته، ويكفر بكل شيء، ولا شيء في سبيل ما يسد الرمق والشبع، وهكذا كفر "دِلْشَاد" ولفظ فلذة كبده "مريم" ابنة الاثني عشر عامًا، وسلمها بيده طوعاً، وقلبه قسراً، لبيت الجاه "لوماه"؛ لعلها تشبع وتجد أحشاءها ما تطحنه بدلاً من أمعائها. وتنطلقُ أحداث الرواية بين "مريم بنت دِلْشَاد" و"مامويزي" و"فردوس"، وعبداللطيف لوماه"...وغيرهم من شخصيات تجسِّد واقعاً مؤلمًا للجوع والنبذ والاستسلام، والتخلي في أزقَّة حواري مسقط. تُهرس "مريم دِلْشَاد" بين الطفولة والصِّبا، تختنق ضحكاتها الرنانة والتي تشبه ضحكة أبيها المشرَّد والمُعدم بين جدران بيت لوماه وعنجهية وتسلط "فردوس لوماه"، إلى أن ينتشلها "عبد اللطيف لوماه" التاجر ابن الحسب والأرستقراطي، ودون النظر لرغبتها وإرادتها لتنتقل بعدها من فتاة ترعرعت في فقر مُدقع، وجوع متأصِّل وطبقة اجتماعية مهمشة، إلى أرستقراطية يحقُّ لها أن تشبع وإن كانت المحاذير والقيود التي تفرضها "فردوس لوماه" لا زالت تكبلها؛ كي لا تنسى أصولها الجائعة المعدمة.. متناسين أنَّ ثروة لوماه تكاثرت من تجارة السلاح مع الأعداء الإنجليز.

الحَسَب والجاه والسُّلطة تُشترى بالمال.. كنت أستنكر مقولة جدتي: "المال له القدرة على تفصيل الأنساب والجاه والسلطة حسب سلطتك النقدية"، ولم أكن لأفهم كيف لورقة نقدية أنْ تحدِّد نسبي ومكانتي؟ ولكن شخصية "عبداللطيف لوماه" وريث تجارة السلاح وتعامله مع الإنجليز المُحتلين، رغم امتعاضه في كثير من الأحيان. تزوَّج عبد اللطيف لوماه من "مريم دلشاد" وهي ابنة مُشرد وبلا نسب واضح، وفي الوقت ذاته رفض أن يزوج شقيقته الوحيدة "فردوس" لصديق عمره لأنه أقل منه في الطبقة الاجتماعية والحسب؛ فماذا لو امتلك صديقه مالًا مشبوهًا؟ هل سيختلف الميزان؟ إنها سلطة المال تحدِّد الأصل والفصل، وترفع وتخفض من تشاء متى تشاء.

"مامويزي".. الخادمة المتمرِّدة على العبودية بقلة حيلة تستقل بإنسانيتها ما استطاعت، وتقرر عدم الخضوع وعدم الزواج والإنجاب؛ كي لا تُسهم في سلسلة لا تنقطع من بؤساء القيد الجبري، وعقود البيع والشراء، قرَّرت كسر الحلقة من تجارة الرقيق، وفضلت التضحية بفطرتها كأم، حق القرار والرفض والتفكير لرهين العبودية كان أمرًا مرفوضًا في الكثير من الأمم، وأن تحظى "مامويزي" بكذا حق أمرٌ مُثير.

إنَّ "دِلْشَاد" وإنْ كانت محض خيالٍ، إلا أنَّ البحثَ الهائلَ والجهدَ في ربط ذاكرة مسقط بالروايات الشفهية، وإضفاء تفاصيل وأحداث تاريخية، أعطى الرواية نكهةً إبداعيةً متفردةً. تمنيتُ حقًّا لو يتم تحويلها إلى مسلسل تليفزيوني؛ فهي جديرة بذلك، وحتمًا ستُحدِث نقلة نوعية في قطاعين مهمين: "الإنتاج الإعلامي" و"الوسط الأدبي"، وستكون مُحفزًا لأي قاص أو روائي أو أديب.. فتحويل الأدب المقروء إلى قطعة فنية تُعرض لهو أمر يستحق المحاولة.