الهند على صهوة فيل

 

 

الطليعة الشحرية

انتفض فارس هندي نبيل على صهوة فيله الرقمي متزودًا بأنظمة تحديد المواقع يُعلن بدء معركته العنصرية المُقدسة في استماتة لاستعادة مجدٍ لم يملكه يومًا. حمل الفارس خريطة استعمارية بريطانية صفراء و"شاي ماسالا" ويتطلع بكل جبروت سافر نحو الخليج صارخًا "إليكم أيها الناس، أنا وريث الإمبراطورية، حامي الديانة، مُحرر البحار، وآخذ مباركة قداسة البقرة قبل أيّ مُهمة دبلوماسية".

ويمتلك الفارس الهندي جيوشًا خفية في موانئ ليست ببعيدة تنتظر إشارة البدء، فتلك الحقول النفطية والثروات ما هي إلا تيجان لا تزهو سوى على رأس الفارس الهندي الوطني النبيل، وحين تسأل النبيل عن الأقليات المُضطهدة في بلاده يتمتم باستخفاف: "أوه، تلك مجرد رياح… لا تستحق القتال، الطواحين الأهم هناك، في الموانئ ليست ببعيدة!".

وهكذا يُواصل مغامرته المقدسة، غير مدرك أن خوذته مصنوعة من قدر ضغط، وسيفه من ملعقة فضية مسروقة من مائدة التاج البريطاني، فهل نلوم "دون كيشوت الهند"، أم نلوم من يصفق له؟

منذ أيام كنَّا أمام كوميديا استعلائية بتمويل نووي فحين نرى دولة كانت ضحية الاستعمار البريطاني لأكثر من 200 عام تُقلّد مستعمرها بنفس الأدوات، ولكن بلغة بوليوُدية.

الهند التي كانت تصرخ من "قهر الرجل الأبيض"، قررت اليوم أن ترتدي زيه العسكري، وتمسك دفتره الاستعماري، وتضيف عليه بهارات هندوسية قومية بطعم العنصرية، تريد أن تصبح إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، لا حبًا في الشمس؛ بل لتسطع فوق رؤوس الأقليات والمجتمعات المجاورة، تمامًا كما فعل تشرشل ولكن بنكهة اليوغا والكاري.

استقلت الهند عام 1947، وزودت فترة الاستعمار الهند بميراث مؤسساتي وقانوني وثقافي ما زالت تستثمره حتى اليوم. شرعت الهند في رحلة بناء الدولة الحديثة ومع اقتصاد يُعد من الأسرع نموًا في العالم، وجيش ضخم، وقوة ناعمة ممتدة، بدأت الهند تتحول من دولة نامية إلى قوة عالمية تسعى لقيادة العالم من الجنوب وأن تعادل ميزان القوى مع الصين.

ومع رغبتها في لعب دور عالمي، بدأت الهند صناعة نسخة خاصة بها من الإمبراطورية البريطانية، ولكن بأسلوبها العصري، وأدواتها الخاصة مثل الاقتصاد، والتكنولوجيا، والجاليات، والدبلوماسية. وفي عهد ناريندرا مودي منذ 2014، أصبح هذا الطموح أوضح، مدعومًا بخطاب قومي شعبوي يدعو إلى "استعادة عظمة الهند". وثيقة السياسة البحرية الهندية 2020. تمثَّلت خطة العمل الأولى لرئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، بَعْد إعادة انتخابه لولاية ثالثة في تعزيز الشراكات الاستراتيجية للهند مع الدول الجُزرية في منطقة المحيط الهندي، وهو ما يأتي في سياق أشمل يرتبط بتعزيز مكانة الهند في قارة إفريقيا باعتبارها جزءًا مُهمًا من الجنوب العالمي الذي تسعى الهند إلى قيادته.

وإن كانت استراتيجية مودي تَستهدِف بالأساس حماية المصالح البحرية الهندية وتعميق تعاونها الاقتصادي والعسكري مع شركائها الأفارقة، إلّا أنها تشكل ذراع نفوذ للوبي الغربي بقيادة الولايات المتحدة ويطوق الخليج العربي جغرافيًا؛ مما يوفر للهند إمكانية النفاذ غير المُقيَّد إلى تلك المنطقة الحيوية؛ ومن ثم مساعدتها على تحقيق أهدافها وأهداف الإمبريالية الرأسمالية الغربية. ولم يكن هذا التموضع والاستراتيجية الهندية البحرية إلّا استكمالًا مما يعرف بـ"سياسية الجوار أولًا Neighborhood First Policy"" الهندية، وقد أدى إنشاء الصين أول قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها في جيبوتي في عام 2017 بمقربة من جزر المالديف، إلى دفع الهند نحو تكثيف علاقاتها مع موريشيوس إلى ما هو أبعد من الشراكة التقليدية؛ إذ قدَّمت الهند لها 100 مليون دولار لشراء مُنتجات دفاعية. كما افتتحت الدولتان بشكل مُشترَك مهبطًا للطائرات ورصيفًا على جزيرتي "أغاليغا" الواقعتين في المحيط الهندي، حتى تتمكن الهند من مراقبة الأنشطة الصينية عن كثب.

وعلى الرغم من أن الهند تتفادى أية توترات ظاهرة مع الصين، وتتفادى كذلك الدخول معها في منافسة مباشرة، فإنَّ التحركات الصينية تُمثِّل للهند بوصلة للتحرك، وليس أدل على ذلك من فَتْح الهند خط شراكة جديد مع تنزانيا وموزمبيق في جنوب شرق القارة الإفريقية، ودخولها معهما في تدريبات مُشترَكَة؛ وهو ما ردت عليها الصين بالمثل، ومع نفس الدولتين، من خلال إجراء تدريبات بحرية مُشترَكَة مما يُمثِّل جولة من جولات المنافسة المحتدمة بين الصين والهند داخل وخارج محيطهما الجغرافي.

بناءً على ما سبق، يمكن لنا تفهُّم سبب المناوشات الأخيرة بين الجارتين النوويتين الهند وباكستان؛ فالهند بقيادة "دون كيشوت مودي" تسير بخطى واثقة وفق استراتيجية إمبريالية عنصرية، فلن تقوم دول عظمي تدَّعي الديمقراطية بتوسيخ كفيها في نِزال لا تعلم نتيجته، وعليه سيتم إرسال أول مهرج نبيل يمتلك طموحًا عنصريًا مُقدسًا ليستكشف ساحة النزال. قد تَمنع الأسلحة النووية الحرب الشاملة، لكنها لا تمنع الضربات المحدودة أو المناوشات الجوية والبرية. وقد شهدت العلاقات الهندية الباكستانية تصعيدًا خطيرًا عسكريًا حادًا يُعد الأخطر منذ عقود، مما أثار مخاوف من اندلاع نزاع شامل بين القوتين النوويتين.

الأزمة بدأت في 22 أبريل الماضي بهجوم إرهابي في منطقة باهالجام بكشمير الهندية، أسفر عن مقتل 26 سائحًا، معظمهم من الهندوس. واتهمت الهند جماعات متطرفة مقرها باكستان بالمسؤولية عن الهجوم، مما دفعها إلى إطلاق عملية "سندور" في 7 مايو؛ حيث شنت ضربات جوية استهدفت ما وصفته بـ"بنى تحتية إرهابية" داخل باكستان ومناطق كشمير الخاضعة لإدارتها. وردت باكستان بإسقاط خمس طائرات هندية، بينها 3 من طراز "رافال" الفرنسية، وشنّت هجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ على مناطق هندية، مما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين وعسكريين.

تزامنًا مع العمليات العسكرية، تعرضت الهند لهجمات سيبرانية واسعة النطاق، استهدفت بنى تحتية حيوية مثل السكك الحديدية والمطارات وشبكات الاتصالات أشارت تقارير إلى تورط مجموعات هاكرز مدعومة من دول مثل باكستان وتركيا والصين في هذه الهجمات.

وأظهرت الأزمة هشاشة الاستقرار في جنوب آسيا وفي هذه البيئة، والطرف الذي يُبدع في استخدام القوة المحدودة، دون أن يتجاوز "الخط الأحمر النووي"، سيكون هو المُتفوِّق سياسيًا وعسكريًا. وقد أظهرت باكستان تفوقت تكتيكيًا في لحظة حرجة، وأظهرت فعالية عسكرية سريعة ومُوجَّهة.

ويتضح أن تيار التغير قادم في آليات الردع واستراتيجية التوسع والنفوذ والحلم بأن تكون الهند العنصرية المقدسة قوة عالمية لا مجرد قوة إقليمية سيدفع كل تلك الآمال والطموح بـ"دون كيشوت الهند" إلى تعزيز التحالف مع واشطن وتل أبيب؛ لدمج أدوات جديدة في استراتيجيتها منها الحرب السيبرانية والتفوق الفضائي.

الفشل الذي حاق بشركات التصنيع العسكرية الغربية مثل Lockheed Martin، Dassault، Raytheon، وغيرها والتي استمدت قوتها من "هيبة الردع لا بيع السلاح"، ذلك الفشل الذريع في تحقيق تفوق واضح، ضربَ سمعة التصنيع الغربي، خصوصًا في أعين الدول الصاعدة التي تبحث عن جودة وكفاءة قبل الولاء السياسي.

أحرج التفوق الباكستاني الصيني شركة Dassault Aviation الفرنسية وهزت هيبة عرش الثقة بسقوط طائرات رفال الفرنسية واختراق الأنظمة الدفاعية الهندية، فكل دولة تخطط لشراء الرافال ستُعيد حسابتها. وقد تبدأ دول صغيرة ومتوسطة بالنظر بجدية إلى السوق الصيني والتركي وحتى الروسي. الصين وباكستان استفادتا إعلاميًا من تصوير إسقاط رافال ونجاح المسيرات، وروّجت لذلك كمؤشر على نهاية التفوق الغربي.

قد تشهد الأسواق العالمية طفرة تكنولوجية عالية ويرتفع الاستثمار في الحروب السيبرانية والمسيّرات؛ فالحرب الحديثة لم تعد تعتمد فقط على الطائرات المأهولة؛ بل على إعادة تصميم أنظمة دفاعية هجينة مثل الأنظمة متعددة المهام القادرة على التعامل مع المسيرات الصغيرة، الهجمات الإلكترونية، والتشويش.

غيَّر التفوق الباكستاني- المدعوم تكنولوجيًا من الصين- مشهد المعركة، وضرب في عمق "عقيدة السوق" الغربية القائمة على الهيمنة التكنولوجية وكبح جماح أحلام فارس هندي نبيل يعتلي صهوة فيله يحاول الولوج عبر بوابة الاستعلاء القومي؛ ليُصحح التاريخ ويقود ما كانت مستعمَرة إلى إمبراطورية طموحة!

الأكثر قراءة