حمد بن سالم العلوي
ليستا سواء وإن تقاربتا في الأسماء، فشجرة الغاف من التراث والثقافة العُمانية، وهي شجرة مظلة ذات أغصان لينة الملمس تخلو من الشوك والأذى، وورقها أخضر غامق عريض وبحجم صغير، يأكله الإنسان بإضافة البصل واليمون عليه والملح والقاشع، فهو غذاء للإنسان وعلف للحيوانات وخاصة الجمال، وهي أيضًا ظل لمن يريد الاستظلال بها، وخاصة بين فصول السنة المتوسطة البرودة، حتى يضرب بها المثل فيقال: "ظلة غافة ولا ظلة شغرافة".
ولمن لا يعرف الشغرافة فهي بمثابة المشيمة التي تحمي طلع النخيل، ولكن مشيمة النخيل خشنة وقاسية، وذلك بحسب طبيعة الحماية، أما مشيمة طلع الفحل أو ذكر النخيل فيسمى (كِييف) لذلك عرفت ظلة الغافة بالمخففة؛ لأنها تتخللها بعض خيوط الشمس، فتعطي ظلاً مريحًا للإنسان في الشتاء مع شيء من الدفء، أما ظلة الشغرافة فيقصد بها وقت القيظ، حيث يَقصُدُ الناس مزارع النخيل، وذلك خلال فترة الصيف هربًا من الجو القائظ أو الحار جدًا.
إذن الغافة فهي ظل وغذاء ودواء لبعض الأمراض كما ورد مُؤخرًا في أخبار "الواتساب" وطعام للحيوان، وحطب للطبخ، ولكنها لا تصلح للتدفئة؛ لأنها تحدث فقاقيع من الشرر يتطاير فيؤذي الجالسين حولها، وهي شجرة معمرة تكثر في البراري العُمانية، وتشكل في تجمعها غابات وارفة الظل، ووجودها يدلل على وجود مياه قريبة من سطح الأرض.
أما الغويف أو شجرة "المسكيت" فهي شجرة وافدة إلى عُمان، وبعض دول الخليج، وموطنها الأصلي في المكسيك ودول أمريكا الجنوبية وأستراليا، وليس لها أدنى فائدة إلا الإخضرار وحسب، ولا يمكن تهذيبها وتشكيلها كمنظر أخضر، أو الاستفادة منها بشيء لا للإنسان.. ولا حتى للحيوان، ولها أشواك كبيرة ومُؤذية، وتنتشر في الأرض والأودية في المناطق السهلة أي في السهول، وانتشارها واسع كانتشار النار في الهشيم، وتسابق غيرها من الأشجار على المياه، بل وتزاحمها وتقضي عليها بأنانيتها وطغيانها.
وكذلك تسبب تشققًا على الجدران أينما بلغت جذورها السابحة تحت الأرض بلا رأفة. فشكلها مُقرف كأنها "كشة شيطان" وكل من يقترب منها لا يسلم من أذيتها، وذلك لكثرة أشواكها، إذن لا طعم ولا رائحة ولا ثمار مُفيدة لها، ولا حتى شكل يريح النظر، وكما يقال: "لا عون ولا لون"، فلا يستفاد منها في شيء، حتى يشفع لها في البقاء، فإذا زحزحتها من مكان بجهد كبير، وبقى لها جذر تحت الأرض، فإنها تنبت منه عشر شجرات بسهولة، وقد نزلت كالصاملة على بلدان الخليج، والناس اليوم في حيرة كبرى في كيفية التخلص منها.
فهذا الوصف الذي أوردته لهاتين الشجرتين، اللتين تشابهتا في الاسم، واختلفتا في كل شيء، ولكن الأمر الذي لا مفر منه أن نجد تشابها كبيرا بين هاتين الشجرتين، وصنفين من موظفين، وإن كان بتدرج وتفاوت متعاكس بينهما، فكما هي شجرة الغاف قليلة العدد وضعيفة النمو والتكاثر، فإن حال الموظف المُثمر والمفيد للدولة، ولطالبي الخدمة على حد سواء، فيكون من حال شجرة الغاف، فإن ظفرت بأحدهم في مؤسسة من المؤسسات، وفرحت به؛ لأنه طيب الخلق، ذو ابتسامة إيجابية مفرحة، وتنثر له الصدقات بين الناس، ويَحبُّ أن يخدم الناس من قلبه.. وبقمة وعيه، فتعود إليه بعد فترة فتحتاج إلى خدماته، فلا تجده مكانه، فإما تجده مطرودًا من الوظيفة، أو أنه أُزيح إلى الأرشيف أو إلى النقليات، بمعنى أصح تجده قد أبعد عن مواقع خدمة الجمهور، والسبب أنه اكتسب شعبية بمحبة النَّاس له.
ويرى البعض أنَّ هذا يُخالف المعتاد في الدوائر الحكومية؛ حيث ينبغي على الموظف، أن يتقمص دور صاحب السلطة المهابة، وينسى تمامًا أنه وضع لخدمة الناس، والمطلوب منه الإخلاص في العمل، وبشاشة الوجه وسعة الصدر، والمقصود بالإخلاص في العمل، إعطاء طالب الخدمة حقه.. وليس إرهابه، وبهدلته بين روح وتعال والنتيجة صفر. وقد تسمع بين وقت وآخر، بعض المقاطع الصوتية التي تُعبّر عن هذه المآسي، وقد يسمها المسؤول ويضحك إعجابًا ببراعة موظفيه في تطفيش المراجعين، ولو كان غير ذلك، لطلب ناشر المقطع وأخذ له الحق، أو خذ منه الحق إن كان غير صادق.
وإن هناك الموظف الذي أعجبه الشبه بينه وشجرة الغويف، فأخذ يأخذ مكانه بين الموظفين فيستمد شؤمه فينا من شجرة المسكيت، ولأنه صعب إزاحته من على كرسي الوظيفة، وسيظل ينفث عقده في الوزارة أو المؤسسة سنينا وسنين، وتجده يعدي بقية الموظفين، كما يعدي الصحيح الأجرب، وتتكاثر شجيراته، وتتلون سيوره التي تحتاج إلى أكثر من مسحة حتى تلين، وذلك حتى تدور في مصلحته عشر مرات، وفي مصلحة طالب الخدمة ربع مرة، فهذه الحالة لا تعرف البشاشة، ولا يتصدق ببسمة أو عمل مفيد للآخرين، فرؤيته منفرة ورضاه يتم بطريقة خاصة، لا يقدم عليها إلا ضعيف دين وضمير، فمثل هذا الصنف يحتاج إلى اقتلاعه من الجذور.
إن تغيير رأس الهرم في المؤسسات الحكومية، لا يكفي حتى ننطلق في الرؤية المستقبلية "عُمان 2040" فلابُد من خلخلة الكادر الوظيفي، حتى تفك الحلقات المستحكمة، التي ربما أصابها الصدأ في محاورها، وأضعف الحَلاَ مرونتها، فنقلهم بين المؤسسات الأخرى، وخاصة الإداريين منهم، أصبح ضرورة مُلحة، أما الاختصاصيين فيتم إنعاشهم بدورات بالقدر الذي يحدث التغيير فيهم، وذلك من أجل مواكبة المرحلة الحالية والقادمة، وأن ترصد المكافآت المالية والمعنوية لهم، وذلك لمن يحدث تغيرًا في سلوكه، وعمله وإنتاجه، وألا يكتفى بالنظر إلى الموظفين بعين التساوي، وإنما بعين العدل والإنصاف؛ لأجل انعاش الحافزية والتنافسية بينهم، واقتلاع كل من يتشبّه بشجرة الغويف الضارة، واستبدالهم بشجرة الغاف الإيجابية في كل شيء.. هذا والله من وراء القصد.