الذات.. بين الوعي واللاوعي

أنيسة الهوتية

"لاَ أُريدُ أن أَعي" جُملة صامتة تزحفُ كأفعى مِن اللاوعي إلى الوعي، يقولها ذلك الرجل الصغير بخبث دون إدراكٍ لحال الوَعي الواقعي! مُمثِلاً اللاوعي المَركزي المتمركز في عقولنا الذي تارةً يكونُ هو العَدو الأعظم وتارةً يَكونُ هو الصديق الأقرب حسب مزاجه غير المضطرب مثل أمزجتنا، وفكره غير المتقلب مثل أفكارنا، ورغباته التي لا تتبدل مثل رغباتنا، إلا أنهُ يُعاملنا حسب ما نُعامل أنفسنا به!

فهذا الرجل الصغير خطيرٌ جدًا علينا رغم أنَّه مِنِّا وتُوجَ مَلِكًا عَلينا! ولأنهُ كذلك فَهو يعرف كل تفصيلةٍ دقيقةٍ من تفاصيل حياتنا مُذ وُلدنا، يحمل في جعبته أفلامًا مُتسلسلةً عَنَّا بكامل فصولها دُونَ توقف في أي زمانٍ أو مكان، حتى الخلوات الشخصية بيننا وبين أنفسنا يعلمها ويدونها في عقله الذي تتسع مساحته لعشرات الآلاف من الجيجابايت فذاكرته واسعة جدًا أوسع من ملايين غيمات التكنولوجيا الحديثة! حتى أحلامنا التي ننساها يَحبسها فيهِ ويمنعها من الطيران! فنفتقدها نحنُ ولا نعلم بأنها مسجونةٌ في تلك المساحة الصغيرة جدًا واقعياً، والواسعة جدًا افتراضيًا ذهنيًا، يأسر الأحلام والذكريات؛ لأنها غذاؤه الوحيد لتحديدِ هوية المستقبل في عقولنا! يجمعها في قبو الأسلحة الذي لا تنتهي رفوفه وخِزاناته، ذخائرٌ من الأسلحة في قبو ذلك الرجل الصغير الذي أويناهُ فينا حتى فاستخدمها ضدنا ومارسَ بِها شعوذاتهِ وتهديداته متى ما شعر بالخطر! وإن لم يشعر، فإنه يستمتع باللعب بها ضدنا حتى يرفهَ عن نفسه حين الملل! لأنه وحيد، ولا شيء لديه يتسلى بهِ سوى متابعته لنا في نومنا وصحونا.

إنهُ صديقٌ كاذب وعَدوٌ وَهمي وحَبيبٌ خيالي، يُشعرنا بالحُب المُتبادل مَع مَن يُحب وإن لم يَكُن ذلك الكيانُ يُحبنا، وبظاهرة الجذبِ الكونية يُقنِعُنا، فيجمع لنا باقاتٍ من الذكريات الجميلة، واللحظات الحلوة التي يَبني بها كَمينَهُ الماكر مع صديقته "الحنين" ويحيكونها معًا، كما يحيك العنكبوت خيوطه حتى يصيد غذاءه من الحشرات، وبِما أننا لَسنا حشراتٍ صغيرة تؤكل بقضمة واحدة، فإنَّ غذاءه تِلك المشاعر البريئة التي تُولدُ فينا بعد أن يُهيجها بإشعال النيران اتفاقًا مع صديقته الثانية "الأشواق" التي تضرمُ نارها تحت قلوبنا كساحرةٍ قد أضرمت النار تحت إناءِ طبخ جُرعاتها السحرية التي تحفظها بألوانٍ متدرجة في قنيناتٍ زجاجية براقة تتلألأُ إذا كانت مُبهرةً بما هو جميل، وتحفظها في عُلبٍ من الخشب المتعفن بالفطر الأسود إذا كانت مُبهرةً بما هو قبيح.

إنها الذاتُ التي تُعاقبنا بأفعالِ أنفُسنا، مُتنقِلةً بينَ الوعيين اللذين يشكلانِ وجهي العُملة البشرية، ظاهرهُ وباطنهُ والمؤثر عليهما والمتأثر بهما، والمؤسس للحرب القائمة بينهما وضربِ بعضهما ببعضَ! فالوعي الأول ينشق منه الوعي الآخر ولكنه لا يعلم بوجوده! رغم أنه الأصلُ بوجودهِ، ويكونُ مُتأثرًا بهِ وليس بغيره، وبدونه هو لا وجود له رُغم أنه هو أساسُ الوجود الذاتي بتصنيف وعيهِ المدرك من حدس، وعفوية تلقائية، وتأمل، ومعيار! أي أننا حتى نثبت ذاتنا يجب أن ننهي الحرب الأهلية فيها بين الوعي واللاوعي والتي يكون مسببها الأساسي هو الرجل الصغير الذي إذا خرج عن السيطرة فإنه سيجعل الكيان البشري للشخص مهتزًا، أو يخلقُ منهُ شخصًا أنانيًا لا يرضى بأي شيء سوى إرضاء نفسه، أو يخلق منه شخصًا مهزومًا لا يستطيعُ أن يعيشَ حياتهُ ولا يرى نفسهُ إلا إذا التصق بذاتٍ أخرى!

واللاوعي المركزي حين يرفض الاستماع، والاستيعاب، والاحتواء، فارضًا ذلك على الوعي الواقعي، فإنه يثبت أن تلك الذات قد وقعت تحت سيطرة الرجل الصغير المُتمَلِكِ كُرسي النجرسية، وعلاجهُ أن تقوم انتفاضةٌ ضدهُ لتحريرِ نفسه.