صُبحْ والسيدُ كوفيد (1)

 

سمية السليمانية

متخصصة في العلوم الإنسانية

sumayaalsulaimani@gmail.com

 

كانت تكتب من دون أن تمسك قلماً، ذهنها لا يهدأ، كلام في عقلها يتطاير، بعضه تسجله ذاكرتها وبعضه يتلاشى كالضباب، هذا ما أخبرتني عنه صبح واستمرت بعد ذلك في وصف ما حدث قائلة:" كنت أكتب صفحات وراء صفحات وأخزن خواطر وعبارات في عقلي وقلبي، لم يكن عندي قلم ولم تكن معي أوراق بل في الواقع لم يكن عندي غير هاتفي لأكتب في ملف الملاحظات ما يعتلج في صدري من بركان الأفكار، هاتفي المسكين لم يحز على اهتمامي وهجرته بعد أن كان جليسي وخاتم كفي.

كان اهتمامي منصباً على استيعاب ما يحدث وعلى كينونتي وسط هذه الأحداث المتسارعة، كان من غير اللائق أن اقتحم المشهد ببرود الكاتب وأطلب أوراقاً وقلماً وخاصة أنني كنت على سرير مرقم بأعداد من يرقد عليه من مرضى كوفيد 19، كانت عيناي معلقتين لمشاهدة ما يحدث في ساحة الجهاد، جهاد في سبيل الله حقاً، أبطاله أطباء وطبيبات وممرضون وممرضات ومن خلفهم صفوف من المجاهدين الأوفياء.

لم يكن العدو ليظهر أمام العين فهو يرقد في أجساد المرضى، كانت ساحة معركة بين فيروس متخفٍ وضحايا من هنا وهناك يئنون وأبطال ملثمون لا ترى غير أعينهم، كانت صبح تعاني من نقص الأكسجين وانخفاض الضغط وتسارع دقات القلب، كانت ترقد على سرير المرض وتراقب ما يحدث، وتتذكر أن الجهاز الذي ربط بجسدها عن طريق الإصبع يكاد يعرف ما يحدث في الرئتين والقلب والدماغ  وكل عضو من أعضاء جسدها الممدد أكثر مما تعرف هي.

توجد لغة تفاهم سريعة بين الأطباء والجهاز وتلك اللغة التي تعتمد الرموز والحروف الطبية في أغلب الأحيان تكون لغة مشفرة لا يُدركها المريض عادة إلا البعض ممن يتحرى المعرفة ويكثر من الاستفهام وطرح الأسئلة، تقول كنت أنظر إلى الطبيب والممرضة وهما يتحدثان ويقيمان حالتي الصحية وكأن الجهاز يشاركهما الحديث مني وعني، أدركت حينها معجزة الله في خلق الإنسان، وفتحت أمامي صفحات من الوعي بالجسد المادي.

وفي غمرة هذا الصخب الهادئ من المراقبة والترصد اقترب منها الطبيب بعد أن تحاور وتشاور مع الفريق الطبي المسؤول عن خطة العلاج وقال بنبرة جادة وحانية في الوقت ذاته: صبح معنوياتك تهمنا، ساعدي نفسك. تقول صبح: هنا لا أدري ما حدث، نشطت في عروقي دماء جديدة، شعرت بأنَّ في داخلي كوناً عظيماً،  ومرت في ذاكرتي حالات من المرضى الذين كنت أزورهم وهم يعانون آلاماً مبرحة ويناضلون من أجل البقاء ويتمسكون بحبل الحياة ثم يعودون بشغف جديد وطاقة متجددة.

واصلت صبح الحديث: قد تعلو بك كلمة عباب السماء، وكلمة أخرى قد تدفنك في جوف الأرض، فتغدو كالنعامة في أحسن الأحوال. ما قاله ذلك الطبيب المرابط قلب موازين الساحة في غضون ساعات فأصبحت من مريض مُهدد إلى متعافٍ يحدوه الأمل بالشفاء. إنها تتذكر عينيه اللامعتين بالمعرفة والخبرة وكما تقول قد يكون أحد ثلاثة من الأطباء في أسمائهم كلمة الحمد، فهو محمود أو أحمد أو محمد، طبيب شاب في مقتبل العمر لا يظهر من وجهه إلا عيناه، تدرع كغيره في مواجهة الفيروس ورعاية المرضى.

أردفت صبح بعد صمت وكأنها تربط في لحظتها بين موقفين: زارتني في اليوم التالي إحدى الطبيبات المرابطات في ميدان المحبة وكأنها قد اتفقت مع زميلها على أمر لا أعلمه، بهدوء شديد أمالت رأسها المحجب تمامًا والمسقف بالعازل البلاستيكي وأرسلت ابتسامة عذبة رسمت على جانبي عينيها خيوطًا حريرية من شدة عذوبتها، وبلطف ناعم قالت: صبح أنت تتعافين بشكل واضح، استمري في مُمارسة تمارين التنفس. مؤشرالأكسجين يرتفع في رئتيك وهذا يعني أننا سنلجأ إلى تقليل اعتمادك على الجهاز. نزين؟ الطبيبة تسألني. أجبتها بكل ثقة: نعم، أستطيع. جعلتني بذلك شريكاً في كسب هذا المضمار الأبيض. لقد أصبحت أذني تلتقط مشاهد من هنا وهناك فيها لطف رباني وحنو على المرضى وخاصة كبار السن، وعيني تسمع عبارات  تشد من أزر المريض وتشحذ همته نحو العافية. ولا أنسى صوت المُمرضة وهي تقول لإحدى كبيرات السن من أمهاتنا: أمي لا تقلقي، نحن معك، أنت بخير، اطمئني.

تصفحت صبح هاتفها بعد مدة من الهجر وإذا بأشعة حب تخترق الفؤاد فتصيبه بالعافية، مادتها الحية كانت أدعية المحبين وانتقاءات المقربين من كلمات التعافي الجمعي. إنها لغة تفهمها الروح وتفسرها النفس ويكتبها الجسد من غير اعتلال أو خوف، تقول صبح ساعدتني هذه الرحلة على التأمل وعلى الحضور وانتقلت إلى حديث النفس، أكرر أذكاري وآيات من القرآن الكريم وعبارات مرتجلة بسيطة تشحذ الهمة وتقوي العزيمة نحو الشفاء، فتولدت كلمات وكلمات حتى غدا لدى صبح قاموس جديد الفصل الأول منه يبحث في العلاج بالكلمة الطيبة.

تعليق عبر الفيس بوك