قراءة في كتاب "التأثير السيبراني: كيف يغير الإنترنت سلوك البشر؟" (3 – 5)

 

عبيدلي العبيدلي

ومن الشخص البالغ تعود المؤلفة إلى الأطفال. وهنا يمكن القول إن مسائل الطفل والإنترنت هو محور اهتمامها حين تعالج مسألة تغير السلوك. تستحضر المؤلفة هنا مجموعة من القصص التي تؤكد تعرض طفلك، دون أن يعي، ودون أن يخبر أحدًا بمن فيهم والديه، ودون قدرة أي من هؤلاء على متابعة ما يتعرض له، وهو يمارس الألعاب على الهواء من مضايقات ومخاطر. والأسوأ من ذلك لا يمتلك الطفل مستوى الانتباه اللازم الذي يعينه على معرفة درجة الخطر المتربص به.

لذلك ترى المؤلفة أن سهولة الاتصال وسرعته، وفنون تمويه من يقف وراءه قد أفاد أيضًا المعتدين على الأطفال. إذ تسهل تكنولوجيا الفضاء الإلكتروني، مهمة هؤلاء المجرمين. فهم اتقنوا فنون التعامل مع الضحايا المحتملين من الأطفال الأبرياء الذين يفتقر آباؤهم إلى المهارات اللازمة لمواكبة ذريتهم البارعين في التكنولوجيا. وتقول إن المجتمع لا يواجه مثل هذه المخاطر السيبرانية.

ويتوقف الكتاب عند مختلف زوايا الفضاء السيبراني، من الانفتاح على الإباحية ومشاهد العنف واحتمالات الإدمان على الإنترنت. وما ينبغي أن تكون عليه أخلاقيات استخدام الإنترنت، وما السياسات التي تتبعها الدول الآن.

ثم تغوص المؤلفة عميقا في بحار الفضاء السيبراني، فتعرج على مواقع عالم غامض ومخيف في آن، يقبع ما وراء الإنترنت الذي نعرفه. يقطن هذا العالم ويتحكم في محتوياته مجرمون ولصوص وتجار مخدرات ربما لا يعرف الناس عنه أي شيء. هنا تدق المؤلفة جرس الإنذار. وتحذر من الإدمان على الإنترنت وما يرتبط به من الألعاب، والمواقع الإباحية والبحث المحموم عن معلومات تتعلق بالصحة والأمراض التي تؤدى إلى الوسواس القهري أو ما يعرف بـ "السايبركوندريا(cyberchondria)". ومصطلح "السايبركوندريا"، وفقاً لما ذكره "إميليو دورتي تور ستريك من معهد ولاية نيويورك للطب النفسي وزملاؤه عام 2016، يشير إلى البحث في الويب بشكل مفرط للحصول على معلومات عن صحتك لدرجة تصل إلى المبالغة."

ولكيلا يسيء قارئ الكتاب موقفها من الإنترنت، تشبه أيكن مستخدمي الإنترنت بمخمورين في حانة طال الجدل بينهما حول الأكسجين، وهل هو سيء وضار، أم جيد ونافع. وتحاول أيكن من خلال ذلك أن تلج عالم التكنولوجيا الرقمية، بما فيها الإنترنت، بطبيعة الحال رافعة علامة استفهام كبيرة تتساءل: هل تلك التكنولوجيا مضرة أم مفيدة.

وتخلص أيكن إلى القول إن كلا الإثنين: الاكسجين والتكنولوجيا الرقمية، وجدا ليبقيا ولن يختفيا، ولا يمكن الاستغناء عن أي منهما. ومن ثم لذا فإن الطريقة العقلانية الوحيدة للمضي قدمًا هي معرفة كيفية التعايش معها بذكاء، وبطريقة مفيدة. لكن من أجل القيام بذلك نحن بحاجة إلى فهم معالم كل منهما بشكل دقيق وناضج. ما نفتقر إليه هو علم فهم المشاكل والأخطار والأمراض التي يمكن أن يسببها أي منهما.

وتصر أيكن على أن إن الإنترنت ليست مجرد إبحار على مواقع الويب، كما أنها ليست أيضا محصورة فيما تؤديه وسيلة معاملات لأشياء محددة مثل مشاهدة التلفزيون بشكل سلبي أو إجراء مكالمة هاتفية. إنها، وهنا تكمن أهميتها وخطورتها في آن "بيئة تفاعلية للغاية وجذابة للغاية وغامرة للغاية - مقنعة وجذابة بشكل فريد للبشر".

هنا تتوارى خطورة استخدام التقنيات بشكل خاطئ وسيُساء استخدامها. هذا لا يختلف، كما ترى المؤلفة عن نظرتنا للسيارات والقيادة تحت تأثير الكحول. للتقنية وجهان، الأول منهما جميل ومفيد، والآخر بشع ومضر.

ما يضاعف من خطورة العالم السيبراني، من وجهة نظر المؤلفة، هي سرعة الوصول للمعلومة، وتعدد وسائل ذلك الوصول، وكفاءته. وتضرب المؤلفة مثلا بالوصول إلى المجلات الإباحية عبر السبل التقليدية. كانت تلك العملية، محدودة، وصعبة، ومكلفة. في حين يختفي ذلك عند الحديث عن المواقع الإباحية المنتشرة فوق نسيج الشبكة العنكبوتية العالمية.

كذلك الأمر بالنسبة لبناء علاقات مهنية أو اجتماعية. فقبل اختراع الإنترنت، لم يكن العثور على شريك أو مجموعة راغبة في المشاركة في تشكيل مجتمع مغلق بالأمر الهين، وربما يستغرق فترات طويلة. كل ذلك انتهي مع وصول الإنترنت وانتشارها السريع والواسع كما نشهده اليوم. وهذا ما تحذر منه المؤلفة، حين تدعو إلى عدم الاندفاع الأعمى اللامحدود في التعامل مع الإنترنت.

وتختار الكاتبة تعبير "الاندفاع بشكل واع"؛ حيث إن الاندفاع بالنسبة لها هو "سمة شخصية تتميز بالرغبة في التصرف بشكل عفوي دون التفكير في فعل ما وعواقبه". وكما تشير بعض الدراسات الحديثة فإن "الاندفاع يرتبط ارتباطًا إيجابيًا باللعب المفرط لألعاب الحاسوب والاستخدام المفرط للإنترنت بشكل عام".

فالتكنولوجيا، كما نستخدمها الآن قد تغيرت، وغيرت أيضا. فنجدها كسرت حواجز الزمان، وتجاوزت عقبات المكان. ولذلك نرى ماري أيكن تصرخ محذرة، "أتمنى أن أكون مخطئة، لكنني أعتقد أن هذا التأثير السيبراني قد يؤدي إلى زيادة في السلوك المنحرف والإجرامي وغير الطبيعي في عموم السكان."

لقد نجحت الانترنت، كما تقول أيكن في "أن تشعل شرارة عملية المعايرة المجتمعية وتقييس التنشئة الاجتماعية اللذين عهدناهما".

وتعترف المؤلفة قائلة "إن الوقت ليس في صالحي أبداً. عملي في حالة سباقٍ دائم مع التكنولوجيا. لا بد أن هذا يشكل تحدياً أساسياً للأكاديميين وهم يدرسون ظاهرة ما. بالنسبة للعلماء، هناك سؤالٌ مهم: كيف يمكن مواكبة التطورات التكنولوجية التي نراها تغيّر حياتنا، وسلوكنا، ومجتمعنا؟".

وتجيب د. ماري على هذا التساؤل مؤكدة على "أن أي دراسة تفصيلية للتغيرات التي تطرأ على السلوك البشري بمرور الزمن وتتيح للباحث استنتاج آراء علمية شاملة يمكن أن تعتبر عمراً كاملاً أو أكثر من منظور تكنولوجي. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار ما رأيته شخصياً أثناء عملي، وعلى وجه التحديد المعايير التي تنتشر سريعاً بسبب النمط الجديد للعلاقات الاجتماعية أو ما اسميه التآلف السيبراني، لا أتصور أن علينا الجلوس في أماكننا منتظرين الحصول على إجابات".