حمود بن علي الطوقي
كنَّا نتحدَّث مع مجموعة من الأصدقاء في نقاش حول نقطة تتصل بارتكاز العمالة الوافدة وسيطرة البعض منهم ممن أوتي الخيط والمخيط في إدارة العمل التجاري بعيدًا عن أعين المواطن صاحب العمل، وسيطرته الكاملة على الإيرادات والمصروفات والصفقات، محدثًا نظامًا غير قانوني، وهو ما نطلق عليه "التجارة المستترة".
هذا المصطلح ظل يلازمنا طوال العقود الماضية؛ بل أصبح واقعًا نتعامل معه ونتعايش معه ونحميه؛ بل ونُدافع عنه أحيانًا كي يستمر في النمو، رغم معرفتنا وقناعتنا بأنه مُضر ولا يُقدم قيمة مُضافة حقيقية للمنظومة الاقتصادية. كلنا أصبحنا نعرف أنَّ العامل الوافد لم يسقط إلينا من السماء؛ بل جاء بإرادتنا فنحن- البعض من التجار- من وفَّر له كافة السُبل القانونية لكي يدخل البلاد، وبسبب جشعنا وخرقنا للقوانين جعلناه يعمل حيثما يشاء، مُقابل مبلغ ضئيل يدخل في جيب المواطن صاحب العمل (اسمًا وليس فعلًا)!!
هذه الحقيقة يجب أن تكون حاضرة ونحن نُناقش مجموعة من التَّحديات التي تواجه الاقتصاد الوطني بسبب التجارة المُستترة. وقد قلت مرارًا- وما زلت أقول- إنِّه لا مجال لمُعالجة تشوهات سوق العمل إلا بوجود تشريعات وقوانين صارمة، ولعل الجميع يتفق على التحديات التي تواجه سوق العمل خلال السنوات الماضية وأنها كانت بسبب توسيع رقعة وتفاقم التجارة المستترة، وكلنا نعرف أن من يقف وراء انتشارها تجار وهميون أقل ما يُمكن أن نطلق عليهم أنهم تجار بيع المأذونيات.
هذه التجارة ما زالت تتفاقم ولابُد من ضربة حديدية لتحطيمها وبناء منظومة جديدة لمعالجة الأخطاء السابقة وتشوهات سوق العمل. وكون أننا نناقش بين الفينة والأخرى الآثار السلبية للتجارة المستترة، فقد لاحظنا أنَّ وزارة العمل بدأت في مُحاربة حقيقية؛ وذلك بتصنيف ورفع قيمة المأذونيات، ورغم أنَّ القرار جاء شاملاً الجميع إلا أن الوزارة أحسنت صنعًا عندما استثنت رواد الأعمال الحقيقيين الذين يُديرون مؤسساتهم بعيدًا عن آفة التجارة المستترة. ذكرتُ في تغريدة على تويتر حملت حقيقة مُؤسفة عن تفشي ظاهرة التجارة المستترة من بيع المأذونيات، واقترحت على الحكومة فرض رسوم جديدة على مأذونية العمل لتصل إلى 600 ريال مع استثناء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من رفع الرسوم كون أنَّ هذه المؤسسات تدار من قبل العُمانيين.
هذه التغريدة لم تلقَ تجاوبًا؛ بل إنَّ السواد الأعظم من الردود كان ضد رفع الرسوم، لكن هناك البعض رأى أنَّ المقترح يحمل حلولاً للحد من انتشار التجارة المستترة وكشف حقيقة تجار بيع المأذونيات. ومن بين الآراء التي حملت حلًا جذريًا للحد من هذه الظاهرة: أهمية إصدار قانون بتجريم مُمارسة هذه التجارة وتغليظ العقوبة على التاجر المستتر ممن يتسبب في بيع المأذونيات، وهناك من الأصوات توجه أصابع الاتهام للشركات الكبيرة، وأنها عبارة عن غطاء قانوني، وأن التاجر العماني مجرد "كفيل"، لا حول له ولا قوة، فمن يتحمل إدارة المؤسسة هو "الوافد المكفول"، وهو صاحب المال وأن الكفيل المواطن يحصل على مبلغ زهيد مقابل الخدمة التي وفرها بحيث تكون إقامته وعمله في بلادنا قانونية.
أُجزم أنَّه في حالة صدور مرسوم سلطاني بهذا القانون المقترح لتجريم التجارة المستترة سنكون قد وضعنا المفصل على المقصل، والدواء على الجرح، وبذلك سنصل إلى حل جذري لمعالجة أحد التحديات التي واكبت قطاع العمل والأعمال على مدار السنوات الماضية.
وكمُتابع لهذا الملف الشائك، أقول دائماً إنه لابُد من تشريع وقوانين رادعة تحد وتضيّق على مُمارسي هذه الظاهرة التي أصبحت تمارس عيانًا وفي وضح النهار، وسبق لي أن تناولت في مقالات سابقة المشاكل والتحديات التي تواجه الجميع، وكلنا على علم بأنَّ الوافد هو من يُدير التجارة وأن المواطن ليس إلا مجرد اسم يستغل ويرضى بقليل من الريالات مُقابل ما يجنيه الوافد من آلاف الريالات، كلها تحول إلى الخارج دون قيود أو ضرائب.
أجدني أكتب من جديد في هذا الموضوع وقد أشبع نقاشًا وتحليلاً على المستويات كافة، وقناعتنا بأنَّ هناك حاجة لتغيير المسار ليكون المواطن هو من يُدير تجارته، بينما الوافد جاء لكي يعمل مقابل راتب شهري والقانون يُحدد حقوقه وواجباته. ربما لابُد من مناقشة هذا الملف من خلال مجلسي الدولة والشورى لوضع حلولٍ قابلة للتطبيق والتنفيذ لمُعالجة هذه الظاهرة، ونتمنى كمجتمع أن يكون القانون المُقترح حاسمًا وبنوده جادة في مُعاقبة المخالفين وأن نرى مستقبلا فيه تجانس بين أطراف الإنتاج ذات العلاقة.
إنَّ محاربة هذه الظاهرة تتطلب تعاون الجميع؛ مواطنين وتجار ومسؤولين، لرسم خارطة طريق جديدة قادرة على توجيه البوصلة نحو تعزيز مكانة التاجر العماني وفتح آفاق اقتصادية جديدة أكثر رحابة.