صدقة يتبعها أذى

عبدالله الفارسي

سأبدأُ مقالي بنكتة طريفة كالعادة بعيدة كل البُعد عن مضمون المقال، ولكنها نكتة خفيفة مريحة، مثلها مثل كأس ماء نشربه قبل وجبة طعام دسمة نفتح به مسالكنا الهضمية ونلين بها مصرايننا الغليظة ليسري بها الطعام سهلاً يسيرًا إلى مثواه الأخير.

طفل فرنسي يسأل الرئيس الفرنسي أثناء زيارته لمدرسة أطفال في بلدة يوادو بيكاردي: "كيف حالك بعد الصفعة؟ فيضحك الرئيس الفرنسي بكل هدوء ويجيب على السؤال بكل أدب: ينبغي ألا نصفع بعضنا بتلك الطريقة التي صُفعت بها!!".

هكذا تتقدم الشعوب وبهذه الطريقة تزرع جذور الحرية والديموقراطية في نفوس أبنائها.

وقبل أسبوعين كتبت مقالاً بعنوان "فقير في السجن" تحدثت فيه عن تجربة لطيفة مررت بها في السجن، عارضًا قصة الرجل الفقير الذي كان رفيقي في الزنزانة وتحدثت عن قصة سجنه وطبيعة مشكلته، والحمد لله تعاطف الكثيرون مع حالة الشاب من خلال المقال، ففي اليوم الذي نشر فيه المقال تهاطلت عليّ الاتصالات الراغبة في تقديم المساعدة كمطر طارئ مصحوبا برياح وغبار.

وكما يقول المتفائلون وأنا لست منهم: "ما زالت الدنيا بخير"، وما زالت القلوب نقية وطيبة، لكننا للأسف لا نتقن طريقة التعامل الصحيحة في تقديم المساعدة، ليس لدينا الأسلوب الجميل اللطيف لتقديم المساعدة، نحن بكل فخر عشوائيون في كل شيء، فوضويون في كل مجال دون استثناء، تخبطيون درجة السقوط والفشل خاصة في المجالات الاجتماعية والإنسانية، لا نتمتع بموهبة العطاء الخفيف غير المؤذي، نأبى إلا أن نعطي ونؤذي الآخرين.

نُريد أن نمد يدنا لننقذ الآخرين، لكننا لا نعرف كيف نمدها فنتسبب في إغراقهم وربما قتلهم. تنقصنا الموهبة والخبرة والمهارة والإرادة الصادقة.

تواصل معي بعض الأفراد وبعض الجمعيات الخيرية الراغبة لتقديم المساعدة، طلبوا مني الوثائق الرسمية والأوراق الثبوتية التي تثبت حقيقة ما ورد في مقالي بخصوص الرجل، تواصلت مع الشاب وضربت موعدًا معه، ونقلت له الخبر مصحوبًا بالأزهار مزفوفًا بالأماني ومغلفًا بالتهاني، فشكرني وكاد أن يقبل رأسي ودمعت عيناه من الفرح أمامي. وفي الصباح ركض الرجل إلى البنك لإحضار كشف القرض ثم عرج على المحكمة ليحصل على نسخة من الحكم الصادر ضده وأحضرها لي.

أرسلت الأوراق لكل أولئك الذين اتصلوا بي وطلبوها مني، مضيفاً عليها رقم موظف البنك المسؤول عن ملف قضية هذا الشاب، إضافة إلى رقم هاتف محامي البنك وهاتف قسم تنفيذ الأحكام بالمحكمة.

لكن كما يقولون "افعل خيرا تلقى شرا"!

بعضهم أخذ يُشكك في الوثائق الرسمية التي ارسلتها ويدعي بأنها غير دقيقة، ويطلب مني مزيدًا من الوثائق الصحيحة، لدرجة أن أحدهم شككك في نزاهتي ولمح لي بأنَّ كشف البنك مزيف، فقلت له لديك رقم محامي البنك بإمكانك التأكد بنفسك والتحقق من كل التفاصيل من مصدرها الرسمي ولا تفتح خزينتك قبل أن تتأكد ويطمئن قلبك، وبعضهم صمت صمت القبور ولم يرد أبدًا. والحمد لله البعض كان جميلاً ورائعًا وكريمًا. فجمعية من الجمعيات قدمت للرجل المساعدة المادية مباشرة دون تأخير، وساهمت في إيقاف تنفيذ حكم السجن سبعة أشهر. وبعض الجمعيات الخيرية تعاملت مع الموضوع بطريقة استخباراتية دقيقة، أخذت تتواصل مع الرجل آناء الليل وأطراف النهار، موجهين له أسئلة دقيقة واستفسارات سخيفة ومحرجة عن أسرته وخصوصيات إخوته وكل شخص في عائلته، لدرجة أنَّه كان من ضمن الأسئلة: "كم حمام في بيتكم؟ وماذا تأكلون؟ وكم راتب زوجة أخيك؟ وكم راتب زوج أختك؟"، أسئلة سخيفة مقرفة وغير مهذبة بالمرة.

وبعد أيام زارني الرجل وقرع باب بيتي، وقال لي: "ماذا فعلت يا أستاذ عبدالله؟ هؤلاء الناس بهدلوني، أذلوني، مسحوا بكرامتي الأرض، لا أريد شيئاً منهم، أنا عايش في كرامة لم أطلب منهم معروفاً ولم أقرع بابهم لأطلب خبزًا ولا قمحًا ولا شعيرًا، ولم أطلب منك أنت أن تكتب قصتي وتبوح بمشكلتي، السجن أرحم لي من كل هذا الذل والمهانة، وابتعد عني وأنا في غاية الخزي والعار والانكماش والذوبان".

في بداية الموضوع كنت واقفاً أمامه مُبتهجًا بصنيعي شامخًا كحصان عربي أصيل، والآن انحسرت وانكمشت أمامه حتى أضحيت فأرًا صغيرًا حقيرًا.

حقيقة تأثرت كثيرًا لدرجة الاحتقار لنفسي ولم أنم ليلتين أو أكثر، ولعنت القلم الذي كتبت به ذلك المقال، وطبعًا هذا الأسلوب الذي تمارسه الجمعيات الخيرية ليس جديدًا ولا غريبًا. فأكثر من شخص أخبرني بطريقتهم الحادة والملوثة والاستفزازية في إهانة أي طالب للمساعدة، يقتحمون بيتك في أي لحظة ويوجهون لك أسئلة ترتعش منها فرائصك وينعصر بسببها كبدك وتتلوى مصارينك، ثقافة تقديم المساعدة لها أسس وأخلاقيات وقواعد. العمل الخيري له أصول ومبادئ وقيم وآداب، أتمنى أن يتعلم هؤلاء البشر كيفية مُساعدة الآخرين.

يجب تعليم أعضاء هذه الجمعيات كيفية التعامل مع الحالات الإنسانية بطريقة رقيقة، وكيفية مخاطبة الفقير وكيفية مد يد العون له.

قبل أن نركض بأوراقنا واستماراتنا المزعجة ونطلب من الفقير تعبئتها وملئها، يجب أن نحسن اختبار الأسئلة وكيفية توجيهها وقبلها كيفية صياغة الأسئلة صياغة مُحترمة مهذبة لا تجرح الفقير ولا تخدش كبرياءه أو تهين كرامته، فهناك من لا يحتمل التحدث عن خصوصياته الأسرية مهما كانت الظروف التي تخنقه ومهما بلغت المتاعب التي تُحاصره.

أتذكر موقفاً حدثني به أحد الفقراء يقول: تقدمت بطلب مساعدة من إحدى الجمعيات الخيرية الكبيرة والعريقة في مدينتنا والتي لديها الخير الكثير والمال  الوفير. كان المسكين متقدماً بطلب مكيفات لبيته وظل الطلب تسعة أشهر، وبعد مرور تسعة أشهر زاره الموظف المسؤول بالجمعية الخيرية فرحَّب به الرجل وأدخله الى بيته فوجد مكيفات قديمة مهترئة موجودة في غرف البيت. فقال له: أنت عندك مكيفات، فكيف تطلب منِّا مكيفات فقال له الرجل: أولًا: هل تريدني أن انتظركم سنة كاملة حتى تتكرم حضرتك وتعطيني مكيفاً أو مكيفين؟ ثانيًا: هل أنت أعمى انظر إلى هذه المكيفات إنها خردة أعطاني إياها الكهربائي الباكستاني مجاناً حتى لا أموت في الحر أنا وأطفالي، ثم طرده من البيت وكاد أن يُكسر رأسه بعصى غليظة كانت في مُعلقة فوق أحد المكيفات.

هذه النوعية غير المؤهلة من النَّاس بجب ألا تعمل في الجانب الإنساني إطلاقًا، هذه النوعية ضعيفة التأهيل يجب إبعادهم من العمل الخيري تمامًا، هؤلاء يُمكن أن يتسببوا في كوارث عصبية ونفسية للناس ويضاعفوا مصائبهم ومعاناتهم.

ما هكذا تورد الإبل!!

هناك أساليب وطرق كثيرة ومتنوعة للتعامل مع المساكين والضعفاء والفقراء، وهذا الكلام موجه أيضًا لوزارة التنمية الاجتماعية؛ كونها المسؤول الأول عن هذه الجمعيات وعن طبيعة عملها وعن كل فقير ومحتاج في هذا الوطن، رفقًا بالفقراء ورفقًا بكرامتهم!

الناس شرفاء حتى لو لم يجدوا ما يأكلونه، الناس أعزاء حتى لو كانوا لا يملكون حصيرًا أو شروى نقير.

يجب تعليم القائمين على الجمعيات الخيرية والعمل التطوعي طريقة التعامل المثلى مع أي محتاج أو فقير أو غارم أو مسكين، دون أن نجرح كرامتهم أو نتعدى على خصوصياتهم، خاصة إذا كانوا لم يقرعوا أبوابكم ولم يمدوا لكم أياديهم، ولنستوعب ونلتزم ونُحقق المعنى الجميل والمغزى الرباني العظيم في الآية الكريمة "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم".

وكل الاعتذار والأسف الممزوج بالندم لصديقي الفقير الذي عرضت قصته في مقالي "فقير في السجن".. كل الاعتذار لك أيها العزيز.