صديقة أمي

 

عبدالله الفارسي

"إذا شعرتكم بالاندثار والانكسار والتمزق فابحثوا عن من يحتويكم، ويجمع أشلاءكم المبعثرة".

----

أوصتني المرحومة أمي قبل أن تُغادر هذا العالم الزائف أن أصل صديقاتها، وقالت لي: زرهن ولا تقطعهن بعد موتي. لكني أعرف أمي جيداً بأنها ليس لديها رصيد من الصديقات، ليس لديها صديقات كثيرات، هي مثلي تماماً أو أنا مثلها تماماً كلانا نكره تعدد الصداقات وكثرتها.

كانت تُكرر على مسامعي: "صديقة مخلصة واحدة خير وأبرك من عشرين من المنافقات المزيفات"، ومن أقوالها العجيبة "إذا كثر أصحابك زاد صداعك". لذلك كان لديها صديقة واحدة فقط هي من تستحق الزيارة. وأمي كانت تتمتع بذكاء عجيب هي تعلم بأنَّ الغاية من زيارة صديقتها وجارتها المخلصة هو لأجلي ولأجل راحتي. كانت تعلم أنني رجل عصبي ساخط على كل شيء، سيئ المزاج، مخنوق الروح، وقلق جداً وشديد الضجر، غير مُقتنع بأي شيء، وأحمل اشمئزازا دائماً ومتأصلا! لذلك أوصتني بزيارة صديقتها هذه تحديداً لأنها كانت تعلم أن هذه المرأة مريحة للنفس وستساهم كثيراً فى إطفاء حرائقي الداخلية وتبريد انفعالاتي الملتهبة وأحاسيسي السلبية.

أحياناً كثيرة نحتاج إلى كلمة طيبة رقيقة تطفئ آلامنا، نحتاج إلى عبارة رقيقة تغسل أوجاعنا وتخيط جراحنا. تحتاج إلى نظرة رحيمة تزرع فيك جدوى الحياة ورغبة المواصلة والاستمرار. تحتاج إلى من يربت على كتفك، تحتاج إلى من يمسد رأسك ويمسح شعرك.. هذه احتياجات سيكوبيلوجية غاية في الأهمية، فبعد كل معركة طاحنة مع الناس ومع المجتمع أنت بحاجة إلى التطبيب والتضميد والمداواة. وبعد كل لهاث وتمرغ في الأتربة تحتاج إلى حمام دافئ من المشاعر الكثيفة الناعمة، بعد كل التحام واصطدام مع القاذورات في المجتمع أنت بحاجة إلى تنظيف وتعقيم وطهارة.

كنت في حالة يرثى لها من الانزعاج والتشتت والتشرذم النفسي، كنت أتجول كمهزوم مكسور في شوارع مدينتي الميتة الخالية من الحياة والتي تموت يوماً بعد يوم وتندثر ولا أحد يلتفت إليها أو يكترث بها، فجأة تذكرت، جارتنا الطيبة في حارتنا القديمة صديقة والدتي الحميمة، فقيرة من فقراء هذا الوطن، ولكنها كانت غنية النفس عزيزة الروح، وردية اللسان زهرية الكلام، لسناها ثلج أبيض، وحديثها مرج أخضر.

انقطعت عن زيارتها لأكثر من سنتين، هذه المرأة العجيبة لا أعرف كيف أصفها، منذ أكثر من ثلاثين عاماً ومن قبل أن يخشن صوتي وينتفخ صدري وأخط شاربي، وقبل أن تكتمل ملامح رجولتي، وهي تعاملني كرجل كبير، تعاملني بجمال واحترام لا أحظى به في أماكن كثيرة من محيطي الاجتماعي.

لم تتغير معاملتها لي حتى اللحظة، نفس اللقاء الدافئ وذات الجمال والترحيب القديم. يا لها من امرأة من طينة حقيقية! إنها فعلاً كما وصفتها أمي "امرأة غير مزيفة"، إنها من طينة أصيلة عجنت على مهل فنفخ فيها الروح في ليلة قدر.

كانت تنتقي كلماتها وعباراتها في حضرتي، لا أذكر منذ عرفتها إلا ورأيتها باسمة الوجه طلقة المحيا، مرحة النفس رغم علمي التام بمصائبها ومشاكلها مع أولادها الفاشلين ومعاركها المريرة مع زوجها البائس الذي لا يتقن شيئاً سوى الدخان والسعال ولكن أيضا "صدور النساء صناديق مقفلة محكمة الإغلاق".

يالله كم أحب هذه المرأة الرائعة حين أتذكرها وأكون بجانبها، كنت في حاجة إلى كلماتها إلى دعمها إلى بشاشتها النادرة إلى تفاؤلها الغريب إلى صبرها وقوتها، إلى صوتها الذي يمنحني بهجة وازهارا وظلالا كنت بحاجة إلى ضحكتها لتسقيني نشاطا وانطلاقا وبردا وسلام.

تلقائيًا رأيتُ سيارتي تتوجه باتجاه بيتها وتقف أمام بابها، قرعتُ بابها، ناديت بصوتي المزعج: أم راشد، فجاءني صوتها سريعاً كأنه صوت قادم من السماوات، مرحباً أبا يزيد مليون مرحبا والله، تفضل.. تفضل.

يا لها من امرأة كيف عرفت صوتي ولم تسمعه منذ أكثر من سنتين، لحظات ورأيتها واقفة أمامي متهللة الوجه؛ كبدوية مُؤمنة بالخلود، منشرحة الفؤاد؛ كراهبة ترتل الإنجيل رغم البؤس الذي يرتسم على وجهها، والشقاء الذي يسكن عينيها كانت تضاحك الجدران التي حولها. فأنا خبير في كشف بؤس هؤلاء البائيسن المرهقين وعذاباتهم، أنا متخصص في قراءة وفك شفرات تجاعيد العذاب على جباههم الشريفة وقراءة كفوفهم المتيبسة النظيفة.

قالت لي: زارنا القمر يا أبا يزيد.. ياالله الله، يا لها من عبارة تفعل الأفاعيل في القلب المنهك، فتحيله إلى سماء مزخرفة متوشحة بالنجوم، تحيله إلى محيط لا تسكنه سوى حوريات البحر وتعانقه الغيوم. يا لها من عبارة تحيي الروح بعد موتها.

"تعال تعال مرحباً زارتنا البركة، طولت الغيبة يا أبا يزيد، ليس من عادتك، ومطول الغيبات يجيب الغنائم"، وضحكت بحشمة وأدب وحياء كأنها أميرة أمازيغية.

أدخلتني مجلسهم المتواضع البسيط وكان حفيدها متعلقاً بكتفها ملتصقاً بصدرها، جلستُ معها 20 دقيقة أو أكثر، منحتني فيها كل حاجتي من الحنان، سكبت عليَّ كل الاحترام والتقدير المفقود درجة التخمة، غسلت قلبي العطش بكل الأنهار الجارفة وأطفأت نيران روحي بكل الجليد والثلوج الذائبة.

مثل هؤلاء الناس نادرون، مثل هذه المرأة التي تعيش البؤس بكل تجلياته منذ صغرها، لكن ما زال قلبها يرى أنَّ الدنيا مازالت جميلة، ما زالت تؤمن بخيرية العالم، وأن هناك معجزات وردية قد تتحقق في هذا الكون البائس.

امرأة تقابلك بالضحكات وتودعك بالضحكات.. فمن الآن يقابلك بوجه بشوش وبضحكة صادقة؟! من الآن يمسكك من أطراف أصابعك ويقودك كطفل صغير لهيديك شيئا جميلا ورقيقا؟! من الآن يجود عليك بقبلة طاهرة، وكلمة صادقة، وجمال نقي ولمسة حنون، وحضن عطوف؟!

إنِّهم بشر نادرون حقًا لكنهم موجودون، في زحمة هذا القبح واكتظاظه لن ترى الجمال بسهولة، في هجمة هذا الظلام وسيادة الغبار، لن ترى النجمات المضيئة إلا بصعوبة بالغة..

ابحثوا عن من يُحبكم، ابحثوا عن أولئك الذين تهتز لهم قلوبكم حين يكونون بجانبكم، ابحثوا عن ذلك الصنف الذي تبرد عيونكم حين تصطدم بعيونهم، ابحثوا عن من يشحنكم بإكسير الحب ويحقن صدوركم بهرمون الوفاء.