د. صالح الفهدي
في عام 1987 قررت شركة الخطوط الأميركية «أميريكان إيرلانز» خصم حبة زيتون من كل طبق للسَّلِطةِ يُقدَّمُ لركاب الدرجة الأولى على متنِ أُسطولها، فاكتشفتْ أنها وفّرت مبلغ 40 ألف دولار سنويَّاً بسبب تلك الحبةِ من الزيتون!
حبَّةَ زيتونٍ واحدةٍ لم يشعر بها ركَّابُ الدرجةِ الأُولى، لكن شعرت - بما توفَّر منها من مبلغٍ- خزانةُ الشركة!، وأظنُّ بأنَّ من اقترحها في البدايةِ قد لاقى من التهكُّمِ والسُّخريةِ ما لاقاه قبل أن تجرِّبَ الشركةَ الفكرةَ فترى أَثرها..!
ولو نظرنا نحن – دولةً وأفرادًا – إلى صغائرَ ما ننفقُ عليه أَموالنا حتى لا نكادُ نشعرُ به لهَالنا الأمر، فهناكَ مما لا يُعدُّ ولا يحصى مما نعتبرهُ (حبَّةَ زيتون) لا توفِّرُ لنا شيئاً إن نحنُ استغنينا عنها، غير أننا لو دقَّقنا في الأمرِ لوجدنا في ذلك أمراً عجباً؛ فالسَّيلُ لا يسقطُ دفعةً واحدةً، ولا تهبطُ الوديان بعدَ دفقٍ واحدٍ من السُّحب وإنَّما تبدأُ بقطرةٍ واحدةٍ، تتكاثرُ حتى تسيل ودياناً جارفة.
لا يلتفتُ غالبيتنا إلى توفير (حبة الزيتون) التي لن نشعرَ بها لو أننا قررنا الاستغناء عنها في كلِّ مصادرِ صرفنا، وأقصدُ بحبَّةِ الزيتونِ هي أقلُّ الأمورِ صرفاً إلى درجة عدم الشعور بها، أو الاستهانة والاستخفاف بها، وقد تكونُ في استهلاكِ الطاقةِ في بيوتنا، وفي مؤونتنا، وفي موائدِ سفرتنا، وفي غير ذلك من الأُمور أمثلة لما يساوي (حبة زيتون).
ولا يجبُ أن ينظر المرءُ هنا إلى الأمر وكأنه وضعُ اليدِ مغلولةً إلى العنقِ أي التقتير والبخل، وإنَّما إلى الموضوعيةِ والواقعية في تدبير الأمور، وتصريف الموارد والاعتدال فيه فالحق سبحانه وتعالى يقول: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا" (الإسراء: 29).
الحكومةُ كذلك إن هي نظرت إلى ما يُقارب في صغرهِ (حبة الزيتون) لضبطت مواردها فيما لا ينفعها بشيء، ووجهتها إلى الوجهة الصحيحة، فإن هي وفَّرتْ ما يساوي (حبَّة الزيتون) هنا، ووضعتْ أدق الضوابط لذلك فإنَّها ستضبطُ بلا شك أوجه الصرف الكبيرةِ فيها.
إن الدرس هنا هو أنه لا يمكنُ ضبط أوجه الصرف المالية الكبيرةِ قبل ضبط أوجه الصرف المالية الصغيرة بل الدقيقة التي لا يكادُ يُستشعرُ بها في حياةِ الأفرادِ والمؤسسات، حتى وإن زادت الثروات، وارتفع مستوى الرَّفاه، فالإنسانُ الأريب، والدولة الحكيمة لا يعملانِ من أجلِ يومهما وإنَّما من أجلِ الإستدامة المالية، وهذه أبسط قواعدها؛ أن تُحكم إدارة الأمور الصغيرةِ قبل الكبيرة، وأن تدقِّقَ في وجوه الصرف القليلةِ قبل الكثيرة.
لقد ضرب الله لنا مثلاً بإدارةِ مورد المعيشة الأساسي بالكيفيةِ التي أدارَ بها سيدنا يوسف عليه السلام أمور الدولةِ في مصر حين ولِّي أميناً على خزانتها، ومسؤولاً عن اقتصادها، وذلك بتوفير الحبوب في مخازنَ طوال سنواتٍ الخصبِ حتى انقلب الحال فجاءت سنوات الجفاف كالحةَ الوجه، لكن الإدارة الصحيحة هي التي أنقذت سكَّان المنطقةِ من مجاعةٍ عظيمة.
إنَّ الأزمات المتكررة تعلمنا دروساً بأنَّ عقلياتنا يجب أن تتغير، وأننا يجبُ أن ننظرَ بجديَّةٍ أكثرَ نحو القادمَ من الأحوال التي لا يُعلمُ عنها شيء، فالالتزامات المالية تحتِّمُ علينا أن نميِّز بين حاجةٍ أساسيَّةٍ ورغبةٍ عارضة، وأن نتبنَّى مفاهيم مختلفة، وأخصُّ بذلك الجيل الناشيء من أبنائنا الذين عليهم أن يعووا جيداً معنى إدارة المال، وكيفية إدارة شؤونهم المالية، وما هو الاعتدالُ في الصرف، وكيفية التمييز بين الحاجة والرغبة أي أن عليهم فهم أُسس الاقتصاد.
لقد شاهدتُ بيوتاً فخمةً تُبنى دون الحاجةِ لها، حتى يصعبُ على أصحابها تكملتها، أو توفير الأثاث لها لاحقا، أو وفاء ديونها، أو القيام بصيانتها، ولو أنها كانت بسيطةً على قدرِ حجمِ الأُسرةِ لسهلَ أمرها، لكن غلبت (الوجاهة) و(المظهريات) على القدرة المالية!
وفي المقابل تشاهدُ صروحاً ضخمةً لمؤسسات حكوميةٍ لا تحتاجُ لها لأنها في تغيُّر مستمر، وهي بحاجةٍ إلى أموالٍ ضخمةٍ لصيانتها لاحقاً، في حين أن التكنولوجيا تتجه بالحكومات إلى تصغيرِ أحجام مبانيها، وتقليل أعداد موظفيها.
وشاهدتُ مساجدَ ضخمة تُبنى دون وجودٍ موازنةٍ مسبقةٍ لها، ودون حاجةٍ لأن تكون بهذه الضخامة ولا يكاد يملأ مصليها ربع قاعتها، بل تشاهدُ جوامع قريبة من بعضها البعض، وكل ذلك يستنزفُ طاقات كبيرةٍ ، ويستلزمُ صرفاً عظيماً من الأموال.
تناسى الجميع ما جاءَ في ديننا من وصايا، وما اشتهر في ثقافتنا الشعبية من أمثال تحثُّ كلها على حسن التدبير، والتوفير، ومراعاة الأوضاع المادية، وعدم القفز فوق المقدرات المالية؛ لأن السقوط هو النتيجة الحتمية لهكذا أسلوب في المعيشة.
إن اللهَ وهو ربُّ الكونِ قد ضربَ لنا أروع الأمثال في إحكام السيطرةِ عليه وعلى مقاديره فقال تعالى: "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا" (الفرقان: 2)، وقال سبحانه: "وكل شيء عنده بمقدار" (الرعد: 8)، وقال عزَّ وجل: "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (الأنعام: 59)، أفلا نتعلم بعد ذلك كيف ندبِّرُ أمورنا، ونحكم تصريف أموالنا، ونحسنُ إدارة شؤوننا؟!