السيدة جاسندرا أردرن

عبدالله الفارسي

سأبدأ مقالي بآخر نكتة: سانا ميريلا مارين رئيسة وزراء فنلندا ذات الخمسة والثلاثين ربيعًا، والتي تضج الصحافة الفنلندية بانتقادها هذه الأيام؛ لأنها تحصل على 800 يورو بدل وجبة فطور في القصر الرئاسي، تخيلوا 800 يورو، يا لها من عابثة مستهترة بالمال العام، ويالها من نكتة تقتل من القهر!!

،،،،،،،.

أعتقد جازمًا وأبصم بالعشرة لو وضعنا هذا السؤال في ورقة امتحانات الدبلوم العام: من هي السيدة جاسندرا أردرن؟ لكانت نسبة الإجابة الصحيحة في أكثر الحالات تفاؤلا لن تتجاوز 0.5%؛ لأن التعليم لدينا يُعاني كثيرًا، يُعاني حتى قبل كورونا بزمن بعيد، ثم جاء كورونا وأكمل المعاناة فقطع الوريد!

يقولون "الضمير الحي لا يحتاج إلى مآذن عالية وجوامع فاخرة، إنه يحتاج إلى تربية صالحة فقط".

هل تعرفون السيدة جاسندرا أردرن؟

إنها رئيسة وزراء نيوزلاند، كنت أتمنى زيارة نيوزلاندا لو بقيت في أستراليا فترة أطول، ولكنني للأسف أضطررتُ للنكوص والعودة بسرعة لأسباب بائسة، لذلك لم أزرْ نيوزلاند، فبقيت حرقة ولهفة الزيارة عالقة في قلبي ثم جاءت السيدة جاسندرا وأشعلت الشوق وأججت الرغبة لزيارتها.

وأُصارِحَكُم القول إنني من المعجبين جدًا بالسيدة جاسندرا، لكن للأسف أنها متزوجة ولو لم تكن متزوجة لتوجهت إلى مدينة ويلينجتون الجميلة وتقدمتُ لطلب يدها "النظيفة"،على سنة الله ورسوله، ولا أعلم هل ستوافق أم لا! لكني قرأت أن النيوزلانديين يعشقون أولئك الذين يحملون رائحة البحر، ويحبون لون البشرة القمحي المحروق بهدوء على درجات حرارة تتجاوز الخامسة وأربعين درجة مئوية، ويتقبلون أصحاب العقول الشاطحة والأفكار المُضطربة.

طبعا رغم يقيني بأنني سأحارب القبيلة وأناطح الشريعة في هذا المشروع، لكن هذا كله ليس لأجل إشباع عواطفي ونوازعي الشخصية؛ وإنما لأجل وطني لعل هذه المصاهرة تُخدمنا، وأتمكن من الحصول على خطط السيدة جاسندرا العجيبة في تطوير وطنها والقضاء على مشاكله؛ لأجل وطني ومساعدته على تجاوز مشاكله والخروج من مأزقه.

لكن للأسف السيدة جاسندرا متزوجة ولديها طفلة جميلة، أسأل الله أن ينعم عليها وعلى وطنها بالسعادة الدائمة.

وبما أننا خرجنا من شهر رمضان شهر الفضائل والأعمال وعلى وشك الخروج من شهر شوال، سأدردش معكم قليلا عن أعمال هذه السيدة وفضائلها وبركاتها على بلدها وعن سبب إعجابي الشديد بها.

السيدة جاسندرا رئيسة وزراء نيوزيلاندا، تذكرون موقفها النبيل والمشرف حين لبست الحجاب وقامت بتعزية ضحايا مجزرة مسجدي كرايست تشرتش الذي راح ضحيتها 50 من المصلين؛ حيث عبرت عن رفضها وغضبها واشئمزازها الشديد للجريمة، وظلت تتألم طوال أشهر لدرجة أنها في بعض اللقاءات التلفزيونية حول تلك المجزرة كانت تتأثر حتى تدمع عينيها، وواظبت على التواصل مع أهالي الضحايا خلال سنة كاملة من باب التخفيف عنهم ومواساتهم. بينما شاهد ملايين المسلمين المجزرة مباشرة وعلى الهواء دون أن تدمع عينيه، وبعضهم شاهدها وكان يأكل الآيسكريم كأنها لعبة "بابجي"!

مثلهم مثل الأموات الذين يُشاهدون اليوم قصف غزة ويتضاحكون متخلصين تماما من أدنى مشاعر الإنسانية.

ليس شرطا أن تكون مسلمًا، الضمير وليس الديانة هو الذي يُحدد هل أنت إنسان حقيقي أم أنك لا تنتمي لفصيلة الإنسان!

لذلك السيدة جاسندرا أعطت الفرق الواضح بين السلوك والضمير وبين العقيدة والديانة أيًا كانت نوعها. أنا هنا لن أتحدث عن المجزرة؛ بل سأتحدث عن المعجزة التي حققتها هذه السيدة الفريدة المحبة لوطنها. جاسندرا ليست ممثلة هوليودية، إنها إمرأة نيوزلاندية حقيقية، لديها حب وعشق غير عادي لوطنها فقد ارتقت به ورفعته بسرعة فلكية في فترة زمنية قياسية، فلقد أوصلت البطالة إلى درجة تكاد تكون معدومة، واهتمت بالصحة وأصلحت المستشفيات ورفعت نسبة الجودة في القطاع الطبي مع العناية الخاصة بمرضى السرطان وتوفير أقضل العلاجات لهم، وجعلت من التعليم في نيوزلاند هو الأرقى والأفضل في العالم، وجعلت من معدلات الجريمة في أدنى مستوياتها.

السيدة جاسندرا حاربت العنصرية بشكل غير طبيعي واعتبرتها وباءً لدودًا لأي نهضة وعقبة كؤودًا لكل استقرار. رفعت رواتب المعلمين والممرضين على اعتبار بأنهم الخط الأول في نمو وازدهار أي مجتمع، وطورت جهاز الشرطة، واستثمرت بقوة في مجالات الطاقة والطاقة البديلة، ودعمت العائلات الفقيرة، ودعمت التعليم بالموارد الطبية، وركزت على جوانب الإرشاد النفسي للطلاب لخلق وعي مستقبلي عند النشء منذ مراحلهم التعليمية الأولى.

كما وفرت أكثر من 92 الف وظيفة ووضعت حدًا أدنى للأجور لا يقل عن 17 دولارا للساعة الواحدة، وطورت شبكات الطرق مركزة على جانب الآمان والسلامة لكل من يستخدمها، وركزت على الجانب الأمني؛ لمحاربة الإرهاب في الإنترنت، ووظفت نخبة من المهرة الحاسوبيين في هذا المجال. وأسست هيئات خاصة لدعم الأُسر الفقيرة في أنحاء نيوزلاند كافة. وأجرت إصلاحات واسعة في مجال السجون وأخرجت السجناء ودعمتهم ووفرت لهم سُبل حياة جديدة وصنعت لهم بدايات لحياة جديدة ومختلفة ولديها خطة لإغلاق كل السجون خلال عشر سنوات المقبلة. كما ضاعفت جهودها لتنظيف الشواطئ والأنهار باعتبارها ثروات طبيعية عظيمة لا تنضب، وزرعت أكثر من 130 مليون شجرة، وعززت من قوانين حماية الغابات والأشجار والأنهار والبحار.

السيدة جاسندرا من أبرز اهتماماتها الصحة العقلية، فأي إنسان يُعاني نفسيًا أو مضطرب عقليًا فهو محل اهتمام وتقدير ورعاية الدولة حتى يتجاوز محنته.

لها حب عند الناس غير طبيعي، تركب سيارة الأجرة (التاكسي)، وتسوق الدراجة، وتتبضع في المحلات كإنسان عادي، وتلتقط الصور السيلفي مع أي عابر طريق.

إذا أردت مقابلتها فستجدها في أي محل بقالة، أو في أي حديقة، أو أي ممشى تمارس فيه الرياضة. والأعجب إنها أغلقت مطاراتها في الوقت المناسب ولأشهر طويلة ولم تأبه بأحد، ولم تفتحها إلا بعد أن وصل كوفيد-19 في وطنها إلى معدل الصفر.

في استفتاء عالمي، جعلت من نيوزيلاندا من أفضل دول العالم أمنيًا ومعيشيًا واقتصاديًا خلال ثلاث سنوات. وفي استفتاء آخر غريب من نوعه فإن أغلب سكان القارات الخمس يتمناها أن تكون هي حاكمتهم.

جميع المحللين النفسيين يقولون إن السيدة جاسندرا استطاعت أن تكسر "الإيجو". و"الإيجو" هي الأنا العليا والتي تجعل من الإنسان يتعالى ويرتفع ويعتبر نفسه فوق البشر، ويستعبد كل من تحته ويقارع الرب في سماواته. لقد كسرته السيدة جاسندرا وانتزعته نهائيًا من داخلها.

جاسندرا لا تعتبر نفسها حاكمة ولا تلبس تاجًا من الياقوت والزمرد، تلبس بل قلادة بسيطة بقيمة 245 دولار.  فالسيدة جاسندرا تعتبر نفسها موظفة تحمل على عاتقها مسؤولية شعب بأكمله، مسؤوليه نجاحه ومسؤوليته رفاهيته.

الضمير لديها في أرفع مستوياته وفي أعلى درجاته، وما زال قلبها يحمل الكثير والجميل لوطنها وشعبها.

السيدة جاسندرا نموذج بشري فريد يكاد يكون نادرًا جدًا في زمن إهمال الإمانة والعبث بمستقبل الأوطان.

شكرًا السيدة جاسندرا أنتِ جديرة بالتاريخ، أنت مدرسة في الأمانة والإخلاص وحب الوطن، أنتِ تستحقين الرسم والتوثيق والتصفيق والتصوير والتلوين، أنتِ إلهام حقيقي لكل الحالمين بأوطان حقيقية وبلدان مستقرة وعادلة، أنتِ أمنية لكل العاشقين لمساحة هادئة من الأرض يسودها الحب والإيثار والخير والعطاء والتسامح والضمير الحي.

ماذا أقول عن هذه السيدة العظيمة، يعجز اللسان عن الكلام ويلهث القلم من حجم النقش وصرير الكتابة، هنا ستحدثكم هي بنفسها في دقيقتين ونصف عن ما صنعه ضميرها.

">http://