ضجيج الصمت

رحمة بنت منصور الحارثية 
إخصائية نفسية 

تخيل أنك كلما مشيت في شارع مُزدحم يكتظ بالمشاة وتأملت تلكم الوجوه التي يكسوها الصمت محاولًا أن تغمض عينيك ولو لبرهة من الزمن حتى تستمع لضجيج صمتهم، أوعندما تجلس لوحدك مع نفسك في صخة الصمت لا تسمع سوى دقات قلبك وخلجات أفكارك التي تبرز تارة وتخفت تارة أخرى لتزاحم لحظة الصمت، وأنت تُمعن النظر حتمًا بين تلك الزحمة التي تُخال ناظريك والصمت الذي يعلو المكان تراودك أفكار كثيرة.
لربما أجوبة لتساؤلات عدة كانت تدور في ذهنك المليء بوابل من الأفكار: هل لو استوقفت كل شخص من تلكم الأنفس التي تعبر كالأمواج المُتلاطمة وطلبت منهم أن يمروا على بوابة موصلة بجهاز، لِنُخمن معًا أن ذاك الجهاز ليس إلا قارئ لزخم الأفكار، فيا تُرى ماذا سيروي لنا من عبارات وأفكار مُختصرة عن ما تحمله تلكم الأنفس في خلجاتها؟
بالطبع الكثير من الأفكارالتي تكتظ بها ذاكرة الجهاز لتصنيفها كل حسب نوعيتها ومعاناتها، ومدى عمقها وأثرها، ما بين حزن وفرح وشقاء وسعادة وحب وكره وتسامح وحقد وكتمان وبوح وجفاء وتردد وتسرع ومصارحة ولوم وجرح، ألا تساءلنا؟ 
في زخم الحياة، لسنا لوحدنا من يتكبد عناء الوحدة والمرض والترقب والتمني والظلم والقسوة والحسرة والفقد والخوف، إنها مجموعة مشاعر ستراها بعين الصمت متنوعة وتيرتها، تعلو وتنخفض حسب زخمها وحدتها وتقييمك لها، منها ما يقتلع جذور الهدوء محاولًا جذبك لطنين الألم، ومنها يمر كسحابة صيف ومنها ما يُثير حفيظة مشاعرك سلبًا أوإيجابًا، ومنها ما يأتي على الجرح ليُلامس واقع شبيه لواقعك وما تتكبده نفسك؛ إما أن يحنو عليك ويربت على كتفيك المُثقلة، وإما أن تعيش كل فكرة مرتديًا إياها كوشاح لتزداد قوة لمجابهة ما تشعر به.
كل تلك المشاعر المتداخلة وأنت صامت وعيني الصمت تُرقب بدقة وحذر وضجيج ودهشة وتعاطف وقلق، ما بعد تجربة صمت المشاهد تلك، هل ستُعيد لملمة شظايا أفكارك؟ كم موقف لتراجعه؟ كم شخص ستلتمس له عذرًا؟ كم شخص قسوت عليه ستعتذر له وتسامحه؟ كم شخص تجاهلته وستمنحه وقت؟ كم شخص ظلمته على عجل وأيقنت أنك تسرعت؟ كم شخص تصارحه بمشاعرك اتجاهه؟ كم شخص ستُغير معاملتك معه؟ كم موقف لم يستاهل منك تضخيمه؟ هل ستُبدد مخاوفك اتجاه أشخاص وأماكن وظروف ومشاريع وخطط وأفكار؟ هل ستمنح من أخطأ عليك فرصة؟ هل ستبقى في وتيرة الحزن؟ هل سترتب الأولويات؟ عندها لا بُد من انفراد مع النفس في طاولة الصمت لمحاورتها، لابُد أن يحرص الفرد على ذلك الحوار في خضم روتين مُثقل بشتى المواقف والأفكار، المرء بحاجة للملمة أفكاره وإعادة ترتيبها حسب الأولوية، حتى تُستعاد الطاقه من جديد، قد يتبادر سؤال؟ أحرص كل الحرص على أن أجلس مع نفسي لكن أعاني من جلد الذات؟ 
لا بُد من التصالح مع النفس قبل الحوار معها، لا تقسوا عليها وتحملها ما لا طاقة لها به، قد تكون مررت بيوم مليء بشتى المشاعر، الجلسة مع النفس كنوع من التقييم والتعديل والتوجية ليست للوم أوالإنكار، ليس ممكن أن تُعاد الساعة للوراء لتغير موقف أسى قد انتهى، مثال في لحظة غضب أوكلمات يُصعب إرجاعها إلا أن للشخص استطاعة للتحكم بغضبه أوانفعالاته لكنه لا يلتفت لنداءات نفسه وتتراكم المواقف لتسبب له ولغيره الأذى. إن لكل إنسان ما يشغله، لا بُد أن يقوي عزيمته وتماسكه، ومخاطبته لذاته ونقاشه يكسبه قناعة بأنه ليس لوحده كثيرين ممن مر عليهم نفس الموقف وممن تعاطف معهم وحزن لحزنهم وتأذى منهم أولأجلهم، من خلال عين الصمت المتفحصة تلك تضيف الكثير للشخص بأن يحمد الله على ما هوفيه، وبأن وضعه أهون عن غيره. فوائد الصمت للدماغ الشعور بالراحة، والتخلص من التوتر والقلق، وتجديد لخلايا الدماغ وتحسين القدرات المعرفية وتطويرها وتقييم واستيعاب المعلومات بشكل سليم، والتفكير بإبداع وعمق من منظور علمي الضوضاء تُعتبر من أكثر العوامل التي تُسبب التوتر والضغط، ووتؤثر على قدرات الشخص وحماسه وتجعله مُعرض للوقوع بالخطأ والتسرع، الدراسات العلمية تبين أن المخ إن تعرض لدقيقتين من الصمت سيكون قادرًا على إزالة التوتر؛ نتيجة للتغيرات التي حدثت في الدورة الدموية للدماغ جراء الصمت، الصمت عبادة تمنح النفس سلام وهدوء وسكينة وفرصة ذهبية للتفكير العميق.
دمنا بحوار صامت مع ذاتنا وبنفوس مستقرة..

تعليق عبر الفيس بوك