الدهاريز- باريس

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

 

احملني يا بساط الأحلام بعيداً عن أرض الواقع وخذني إلى عالم الخيال. أحلامي الطائشة الجنونية، كم استنكرها كثيراً، ولكن لولا الحُلم بالطيران لم تصنع طائرة، الخيال حياة والأحلام منفذ الأمل.

"الدهاريز"- أو كما يطيب للبعض أن يُسميها باريس- تزاحم أفكاري وأنا في طريقي إلى الجبل الأخضر، تقسو الصخور الشاهقة ولا تقسو قلوب ساكنيها. لا أدري لم اجتمعت في فجوة عقلي صور (باريس) وأشجار "التبلدي" (البابويا الأفريقية) العملاقة و"الميطان" (الزيتون البري) مع المساكن الحديثة التي تنتشر في الجبل الأخضر في "سيح قطنة"و"الغليل" و"العين" وغيرها من المدن والقرى. فشق سؤالٌ حالمٌ سمج، أفق الْغَيِّ في ذهني، ماذا لو حلت المساكن الصديقة للبيئة بدلاً من الإسمنتية والخرسانة (في الأرياف والجبال) ألن يكون أقل تكلفة؟ وماذا لو أُعتمد في البناء تقنيات حديثة تقاوم الكوارث وقادرة على إنتاج طاقتها الكهربائية ذاتياً باستخدام ألواح شمسية أو غيرها؟ وماذا لو استخدمنا أنظمة زراعة حديثة ومُتطورة؟ كتقنية الزراعة بالغشاء أو الزراعة المائية بدون تربة في الجبل الأخضر وجبال ظفار. وماذا لو أنشئ نظام تصريفٍ مائي يحفظ مياه الأمطار تحت المدن الكُبرى كما هو الحال في العاصمة اليابانية، وماذا لو اُستغلت أمطار الخريف والأعاصير باستخدام الخزانات الأرضية لحفظ مياه الأمطار، واستغلت في إنشاء الطاقة البديلة أو التوسع في الزراعة.

تنتشر أشجار الزيتون في فناء كل منزل في الجبل الأخضر، فلا يكاد يخلو بيتٌ منها. فتجد السياج الحديدية ترتفع لتحمي الشجرة المُقدسة والمُعمرة، والتي يصل عمرها الافتراضي إلى ألف سنة. وبالرغم من شح الأمطار إلا أنَّ السكان صنعوا خزانات أرضية ضخمة لتجمع مياه الأمطار. أن بيئة الجبل وطقسها الذي يشبه حوض البحر المتوسط مثل لبنان وسوريا، ودرجات الحرارة المعتدل والباردة نسبياً تساهم في التوسع بالزراعة بشكل أكبر مثل زراعة أشجار "الكمثري" و"التفاح" و"الخوخ" و"العنب"، وفي الصيف يُمكن زراعة الخضار بشتى أنواعها. وستعزز الأساليب والتقنيات الحديثة في ذلك مثل تقنية "الزراعة بالغشاء المغذي NFT"، والتي تمكن زراعة المحاصيل بدون تربة، وغير مكلفة نسبياً ولا تستهلك مُبيدات حشرية، فالنتيجة خضروات عالية الجودة وتستخدم التقنية في أيِّ بيئة صحراوية أو ملوثة.

ألا يحق لي أن أغلو في أحلامي، واستعيض الخزانات الأرضية المنتشرة بالجبل الأخضر، بنموذج يشابه أشجار "التبلدي" في الارتفاع والتجويف لحفظ ماء الأمطار.

أشجار التبلدي (البابويا الأفريقية) والتي تشمخ بضخامة مصارع سومو في أرضها وتميزها من جذعها الأسطواني الضخم، ذكرتني بحديثٍ سابق عن كيفية استغلال السكان المحليين في أفريقيا لشجرة "البابويا" لتخزين مياه الأمطار والاستفادة منها في موسم الجفاف والقحط. كان السكان المحليون يصنعون فتحاتٍ رأسية في جذع الشجرة تعبئ بمياه الأمطار وتستخدم لاحقاً في موسم الجفاف للزراعة وأشياء أخرى. فماذا لو استخدمنا الطريقة ذاتها وقمنا بتحسينها بما يتوافق مع بيئتنا لتُصبح خزانات لحفظ المياه في الجبل الأخضر هل سيُساهم ذلك في تنشيط وتحسين الزراعة في الجبل؟

أو ماذا لو زرعت أشجار الزيتون المقدسة في الجبال الغربية من محافظة ظفار؟ وماذا لو وضُع برنامجٌ زراعي مع سكان المناطق الجبلية والريفية وتم إدخال أنماط زراعية حديثة في المضمون والكم والنوع؟

أعتقد أنه سيساهم في توطين الزراعة للمستقبل، وقد يُساهم في إضافة مدخول جديد لعوائل كثيرة، وماذا لو تمَّ اعتماد أساليب جديدة وتقنيات حديثة في الزراعة وإنشاء المنازل خصوصاً في النطاق الجبلي والريفي.. ألا يعد ذلك أحد أهداف التنمية المُستدامة؟

التنمية المستدامة والتي تتكالب الجهود الحثيثة لتحقيقها بشتى الطُرق والسُبل وإن كانت (السياحية استهلاكية) إحدى المساعي لتحقيق استثمار وفتح أسواق جديدة وأخشى أن تحولنا إلى مُسَتَهِلك ومُستَهلَك لا مُنتجين مستقلين.

وإذا كُنا نؤمن- جزافاً- بمقولة "لا خير فيمن لا يأكل مما يزرع، ويلبس مما يصنع"، فما الجدوى من السعي إلى التنمية المستدامة المؤقتة؟ وإذا كانت الحداثة والعولمة والتحديات العالمية المُقبلة تتطلب تنوعاً لمصادر الدخل، في حالة نضوب النفط أو تحول الأسواق العالمية للطاقة إلى البحث عن طاقة بديلة، كما هو الحال في التوجه إلى صناعة السيارات الكهربائية، فمن الأجدى الاهتمام بثروتنا الطبيعة، والتي هي هِبةُ الله لنا، واستغلالها وحُسن وإدارتها؛ فالزراعة هي مفتاح المستقبل القادم، و"إنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا"، سينزلق هذا العالم الرخو نحو مُنحنيات حروب بيولوجية مستمرة وحروب موانئ مستعرة، وقد يهتز عرش عيدان الكبريت التي تتكئ عليها قطاعاتٍ مُعينة، فماذا لو أشعل عود الثقاب النَّار؟ فثوب من سيحترق أولاً؟

صفقت الأحلام بابها بقوة في وجهي مُعلنة وصولي إلى وجهتي المنتظرة!!

الأكثر قراءة