الجامعة والمجتمع

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

للجامعات تأثير كبير على صناع القرار في المُجتمعات المُعاصرة؛ فهي بمثابة العقل المُدبر لتقديم الحلول لمُختلف المشاكل المُستعصية التي تُواجه المُجتمعات في مُختلف دول العالم، وذلك من خلال خلاصة الأفكار المنهجية والدراسات العلمية الجادة التي يُجريها الأساتذة والباحثون المختصون في مجالات مُتعددة خاصة في القضايا الأمنية والظواهر الاجتماعية. كما أن طلاب العلم من الجيل الصاعد الذين هم في مقاعد الدراسة يمتلكون طاقات جبارة وأفكاراً خلاقة يُمكن الاستفادة منها وتسخيرها لخدمة الأمن الوطني.

تعد جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية التي تتخذ من الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية مقراً لها صرحاً من صروح الفكر والمعرفة في الوطن العربي فهي الجهاز العلمي لمجلس وزراء الداخلية العرب، وتُعنى بالتعليم العالي والبحث العلمي والتدريب في المجالات الأمنية والميادين ذات العلاقة.

لقد وضعت جامعة نايف سلسلة من الوظائف على رأس أولوياتها؛ فكان أولها التعليم وتخريج وتأهيل أجيال المُستقبل لرفد الوطن العربي بالكوادر المدربة والمؤهلة لخدمة قطاعات التنمية المختلفة خاصة الدراسات العُليا في مجال الأمن الوطني.

وأما الوظيفة الثانية لأيِّ جامعة؛ فهي الاهتمام بالبحث العلمي الرصين؛ المتمثل في تقديم الاستشارات البحثية؛ للوزارات والهيئات الحكومية في داخل الدولة وخارجها، وكذلك شركات القطاع الخاص؛ بهدف تقديم الحلول للمعوقات التي تواجه هذه القطاعات الخدمية، وتحسين أدائها. ولم يكن البحث العلمي في مجالي الأمن الوطني والإعلام الأمني بعيداً عن هذه الجامعة الرائدة؛ بل هناك الكثير من البحوث الإستراتيجية التي لامست احتياجات الوزارات والأجهزة الأمنية في عالمنا العربي.

وتتمحور الوظيفة الثالثة للجامعة في خدمة المجتمع عن طريق تقديم المحاضرات العلمية، والتدريب المستمر للعاملين في الأجهزة الأمنية في وزارات الداخلية في العالم العربي، وكذلك المؤسسات الحكومية؛ لتأهيل الأفراد والضباط والمواطنين، وتزويدهم بآخر المستجدات العلمية؛ المتمثلة في البرامج القصيرة، والدورات الفصلية التي تعقد في رحاب هذه الجامعة العريقة؛ ممثلة في كليتي العدالة الجنائية وكلية علوم الجريمة، وكذلك مركزي (الجرائم السيبرانية والأدلة الرقمية) ومركز (السلامة المرورية على الطرق). فقد نفذت جامعة نايف أكثر من 500 برنامج تدريبي؛ وذلك لحوالي 38 ألف متدرب؛ مستفيدة من هذه البرامج أكثر من 56 جهة من معظم أجهزة الشرطة في الدول العربية.

فجامعة نايف- التي تأسست كمعهد صغير في بداية انطلاقها ثم تحولت إلى جامعة مكتملة الأركان ذات سمعة أكاديمية رفيعة وبيت خبرة في الدراسات الأمنية والاستراتيجية تحت قبة بيت العرب الأول: الجامعة العربية- تحظى اليوم بدعم سخي من حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية، ومن قبله إخوانه الملوك والأمراء الراحلين- طيب الله ثراهم- بهدف تحقيق الأهداف والطموحات التي يتطلع إليها صناع القرار الأمني العربي ومنسوبو الأجهزة الشرطية والأمنية في الوطن العربي، فقد حرصت الجامعة على تنظيم المؤتمرات العلمية بشكل مُستمر؛ وذلك لدراسة وتحليل المشكلات الأمنية والظواهر الاجتماعية التي تُواجه المجتمعات العربية خاصة، والمجتمعات الدولية عامة؛ سعيًا نحو إيجاد الحلول العلمية والعملية المناسبة لها من خلال الاستفادة من العلماء الذين تحتضنهم هذه القلعة العلمية الرائدة؛ وهم لاشك يتمتعون بالخبرات المتراكمة عبر العقود الماضية. فنجد غزارة الإنتاج الفكري لهؤلاء الباحثين الذي أثروا معارض الكتب والمكتبات العربية بالعديد من المؤلفات القيمة خاصة في مجالي الدراسات الأمنية والإعلام الأمني.

لعل الحلقة العلمية بعنوان "دور وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في الحد من الجريمة"، التي سوف تعقد في رحاب هذه الجامعة الفتية ضمن برنامجها السنوي خير دليل على أهمية هذه المُؤتمرات والحلقات العلمية في إثراء المنتسبين للأجهزة الأمنية وكذلك المجتمعات العربية في الوطن العربي الكبير.

وتركز هذه الحلقة التي تضم كوكبة من العلماء والأساتذة والتي تستمر لمدة 3 أيام اعتباراً من 8 يونيو الجاري بالتعاون والتنسيق مع أكاديمية العلوم الشرطية في الشارقة، والأمانة الفنية لمجلس وزراء الإعلام العرب على العديد من المحاور المتعلقة بالإعلام الجديد والإعلام التقليدي. ولعلَّ المحور الرابع الموسوم بـ"وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بين السلب والإيجاب"، أهم هذه المحاور على الإطلاق. ولا شك أن ظهور الإنترنت ثم شبكات التواصل الاجتماعي قد عجل بظهور ما يعرف اليوم بالمنابر الافتراضية، التي مكنت الجمهور من المشاركة في الحوارات وتبادل الأفكار، ونقل ما يدور في البيئة المحيطة بهم من اهتمامات وأحداث مصورة عبر هذه المنصات الإعلامية على نطاق واسع. كما تراجعت في الجانب الآخر سلطة الدولة وسيطرتها على مواطنيها ومنافذها الحدودية، وفضاءاتها المفتوحة أمام التدفق الإعلامي والرقمي الذي اخترق هذه الشعوب بلا استثناء، حتى وإن كان هذا التدفق يحمل فكراً دخيلاً ومشاهد غير مرحب بها، وهذه هي ضريبة الثورة المعلوماتية.

ومن سلبيات وسائل التواصل الاجتماعي بشكل عام- و"الواتساب" خاصة- تحول هذه المنابر إلى ناقل وناشر للشائعات، فقد كشفت الدراسات العلمية عن مسؤولية هذه المنصة عن 80% من الشائعات المُتداولة في كل من المملكة العربية السعودية وجارتها سلطنة عُمان. أما ما يُعرف بـ"الذباب الإلكتروني"؛ الذي يتولى نشر الكراهية والفتن بين الأشقاء والجيران عبر منصات التواصل الاجتماعي فحدِّث ولا حرج؛ فهذه الحسابات التي تحمل أسماءً وهمية، وبعضها عبارة عن أجهزة أو روبوتات رقمية تدار بواسطة لجان أو كتائب؛ تتولى توجيهها نحو دول معينة، وتقدر بالملايين. وتفاعل هذه الحسابات مع وسم معين للرد عليه، أو تحويل مساره نحو قضية أخرى. ويهدف الذباب الإلكتروني بالدرجة الأولى إلى صناعة التأييد الشعبي المزيف للدول التي ترعى هذه الجيوش، وتشويه وشيطنة الآخر من الأطراف المعارضة لها. كما تقوم هذه الحسابات الوهمية بالمشاركة بقوة في حروب التغريدات عن طريق تبني الإشاعات وإعادة نشرها؛ للوصول إلى ما يعرف بالترند العالمي. فالجيوش الإلكترونية مجموعة مدربة تعمل وفق أجندة خاصة، هدفها اختراق مواقع الخصوم، والترويج لوجهة نظر مُعينة عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، وإسكات وتشويه المناوئين لها؛ باستخدام ما يعرف بالدعاية السوداء التي تخاطب العواطف والمشاعر الوجدانية.

وتكمن خطورة الحرب الجديدة في التدفق الهائل للمضامين عبر هذه الوسائل؛ ويكفي أن نعلم أنَّه في دقيقة واحدة فقط يرسل ما يقرب من نصف مليون تغريدة عبر منصة التويتر. بينما يبلغ إجمالي الحسابات على منصة التويتر حوالي 336 مليون حساب؛ منها 48 مليون "مستخدم"- إذا جاز التعبير- هم من غير البشر؛ أي آلات عبر الذكاء الاصطناعي!

وتتميز هذه المنابر الافتراضية من الإعلام الرقمي- الذي يشكل الهاتف الذكي بما يضمه من وسائل وتطبيقات- قوتها الضاربة من خلال سرعة نقل الخبر، وقلة التكلفة المادية، وبعدها عن عيون الرقابة الحكومية، وتجاوزها لحدود الدول والقارات والوصول إلى أبعد نقطة في هذا الكون، والقدرة على التفاعل مع الجمهور المستهدف.

وفي الختام.. ما يُمكن قوله اليوم إن هذا الفضاء الرحب تتسابق فيه الأمم على تطوير إمكاناتها التكنولوجية للحاق بالثورة الصناعية الرابعة، خاصة في مجال الأمن السيبراني لحماية المعلومات في النطاق الوطني، وكذلك الحصول على الأسرار العلمية المتعلقة بالثورة المعلوماتية بين أقطاب الدول الصناعية الكبرى. وتتجه الأنظار إلى جامعة نايف ممثلة في مركزي الجرائم السيبرانية والأدلة الرقمية، لعقد مزيدٍ من الدورات في هذا المجال؛ من أجل رفع مستوى الجاهزية لدى أجهزة الشرطة العربية فيما يتعلق بالجرائم الإلكترونية التي تواجه معظم الدول العربية.