د. محمد بن عوض المشيخي **
أزمة توظيف الشباب في القطاعات الحكومية والخاصة لم تكن وليدة هذه اللحظة، وها هي تعود إلى الصدارة مجددًا، وإن كانت في الأساس لم تغب عن أذهان الرأي العام منذ التسعينات من القرن العشرين، عندما ظهرت طوابير الباحثين عن عمل على أبواب وزارتي القوى العاملة والخدمة المدنية (سابقًا) لأول مرة، متزامنة في ذلك مع ارتفاع أسعار النفط ووجود فائض اقتصادي.
ورغم ذلك فهي القضية الأولى بلا منازع طوال 3 عقود منصرمة؛ حيث شهدت البلاد زيادة ملحوظة في استقدام العمالة الوافدة، وتولى قيادة الشركات الكبرى من قبل الوافدين الذين شكلوا ما يعرف باللوبيات؛ لمنع المواطنين من الولوج للقطاع الخاص إلا للوظائف الدنيا، وأصبح الأجنبي هو صاحب القرار الأول في ذلك القطاع، الذي يعد العمود الفقري لتفريخ الوظائف في أي دولة في العالم، في ظل غياب كامل من أصحاب الشركات أنفسهم للاهتمام بالعنصر الوطني، وكذلك غض البصر من الوزارات المختصة بتعمين هذه القطاعات. وفي بداية الألفية الجديدة ركزت الحكومة على المشاريع العملاقة في البنى الأساسية كالمطارات والطرق والمباني والمعارض الحكومية، وذلك على حساب إقامة المصانع واستثمار الموارد الطبيعية الأخرى المتوفرة في ربوع السلطنة التي لو تم استغلالها لكانت البديل الأنسب لتنويع مصادر الدخل، الذي بلاشك سيساعد على توفير فرص عمل؛ وعدم الاعتماد بشكل أحادي على النفط.
فضخت الحكومة عشرات المليارات التي بلا شك مهمة للبلد، لكن كان المستفيد الأول منها هم التجار الذين استحوذوا ونفذوا تلك المشاريع بفوائد مضاعفة. يستثنى من ذلك قطاع البنوك الذي نجحت الكوادر العمانية في إدارته باقتدار منذ التسعينات من القرن الماضي، مما جعل الرؤساء التنفيذيين ومديري المصارف يوفرون بيئة جاذبة لاحتضان الشباب المستجدين من مخرجات الكليات والجامعات، في مجالات المحاسبة والإدارة والصيرفة، إذ يصل التعمين في البنوك العمانية أكثر من 94% واضعاً السلطنة بذلك في مقدمة دول مجلس التعاون الخليجي في هذا القطاع.
إن إيجاد حلول عملية وجادة لتوظيف أبناء هذا الوطن ليس بالأمر المستحل، فتشكيل فريق مصغر من الخبراء المختصين في إدارة الأزمات الاقتصادية المتعلقة بواقع احتياجات الوزارات والشركات المحلية من الكوادر الوطنية حالياً وخلال السنوات القادمة أصبح من الضروريات في هذه المرحلة. والهدف الأول من هذا الفريق- الذي يجب أن يتبع مجلس الوزراء- يتمثل في وضع خارطة طريق واضحة المعالم لتوظيف الكادر الوطني في السلطنة. كما إن مشاركة مجلس الشورى ممثلاً بلجنة الشباب والموارد البشرية مع وزارة العمل في إجراءات التوظيف أمر مهم جدا؛ نظرا لوجود أزمة ثقة بين الوزارة والمواطنين منذ سنوات طويلة، فأرقام التوظيف التي تعلن عنها الوزارة بشكل يومي وشهري والتي تقدر بالآلاف لا تحظى بالقبول من المجتمع، إذ تفتقد إلى الشفافية من وجهة نظرهم، وأعضاء مجلس الشورى يطالبون منذ 2016 بنشر أسماء الذين تم توظيفهم بشكل فوري، لكن الوزارة ترفض نشر تلك الأسماء لأسباب في نفس يعقوب!
ولعل الجهات المعنية تقر بمسؤوليتها عن ملف التوظيف، وعلى وجه الخصوص المكلفين بالتوظيف لإيجاد فرص للشباب الذين طال انتظارهم من الباحثين عن عمل، والبحث دون كلل أو ملل عن فرص عمل لهم، لتوفير مصدر رزق كريم لهم أول الخطوات التصحيحية في هذا الملف.
فقد ظهرت على الساحة أصوات بعض المسؤولين من وزارة العمل، وكذلك بعض أعضاء الحكومة تزعم بأن الحكومة ليست هي المسؤولة عن توظيف الشباب الذين أنهوا الدبلوم العام، وكذلك الدراسات الجامعية وما فوقها؛ وهذا الكلام مردود عليه وغير منطقي على الإطلاق؛ فلا توجد سلطة تنفيذية معترف بها في هذا العالم تتخلى عن هذه المسؤولية من الشرق إلى الغرب. فتلك التصريحات غير المحسوبة قد استفزت الجمهور، فجرت الموقف وعجلت بخروج الشباب إلى الشوارع في عدد من الولايات خلال الأسبوع الماضي، وتصدرت أخبار تلك الأحداث وسائل الإعلام العربية والعالمية. من هنا أصبحت الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لتدريب الوزراء والوكلاء في الوزارات الخدمية على أسس ومبادئ التواصل مع الرأي العام، وقبل ذلك كله يجب أن يعرف هؤلاء المسؤولون اختصاصات الوزارات التي يديرونها وواجباتها تجاه المجتمع.
لعلنا نتذكر جميعاً الألفاظ غير المرحب بها من المجتمع العماني أثناء السنوات الماضية منذ رفع الدعم عن النفط وانتهاء بالتوظيف، وبدلا من أن تقنع الناس بالقرارات التي تتخذ من قبل هؤلاء المسؤولين في الشأن العام، تظهر في وسائل التواصل الاجتماعي الوسوم المستهجنة لتلك التصريحات، ويتحول الناس إلى خصم للجهة التنفيذية؛ بسبب تلك المواقف التي تصدر عن ممثلي الحكومة في الوزارات المعنية.
ومن المفارقات أن يطالب بعض رواد التواصل الاجتماعي بالقيام بدور وزارة العمل في تنسيق وتوزيع الباحثين عن عمل في قطاعات العمل المعروفة فيما يتعلق بالوظائف التي صدرت فيها توجيهات سامية بتسريع توفير 32 ألف فرصة عمل، منها 12 ألف وظيفة في القطاع الحكومي المدني والعسكري.
وحصر الوظائف الحكومية خاصة العسكرية منها للذين أعمارهم ما دون 27 سنة أغلق باب الأمل أمام المنتظرين منذ 10 سنوات وأكثر وأعمارهم الآن على مشارف الأربعين، فكانت هذه الاشتراطات صادمة لهؤلاء بكل المقاييس.
الأنظار تتجه إلى القطاع الخاص للمشاركة مع الحكومة في توظيف أعداد من أبناء هذا الوطن، فعبر السنوات الماضية لم يستجب معظم أصحاب الشركات الكبرى لحلحلة المشكلة الوطنية التي تنتظر حلاً عاجلاً، فالرقم الذي أعلنته الحكومة خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن هناك عشرات الآلاف من الخريجين كل عام، فضلاً عن وجود أكثر من 65 ألف باحث عن العمل منذ مطلع هذا العام 2021؛ مما يترتب على الجميع الاستمرار في توفير فرص عمل جديدة للتوظيف، وعدم الاكتفاء بما أعلن عنه الآن.
لقد تفاجأ الرأي العام العماني بقيام القطاع الخاص خلال العام الماضي 2020- الذي شهد تعمق الأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا- بتوظيف أكثر من 38 ألف وافد، متجاهلاً بذلك المواطنين. وهذا يشير إلى وجود فجوة كبيرة بين ما يتطلع إليه المجتمع العماني ويتوقعه من ذلك القطاع الذي استفاد من خيرات هذا البلد في العقود الخمسة الماضية.
وفي الختام.. إن قناعة أصحاب الشركات الوطنية بأهمية إحلال المواطن الذي يحمل الشهادات والمهارات اللازمة بدلاً من الوافد يحتاج إلى قناعة وولاء لعمان بالدرجة الأولى؛ فقضية توظيف أبناء الوطن تحولت إلى قضية مجتمع وأمن وطني. ومن هذا المنطلق على القيادة الحكيمة لهذا البلد أن تدعو أصحاب الشركات العملاقة التي تعمل على تراب هذا الوطن إلى اجتماع ومصارحة وطنية وجهاً لوجه؛ لإقناعهم بالمشاركة في الإحلال الفوري للذين ضاقت بهم السبل وأغلقت أمامهم أبواب الرزق، فالأمر لا يحتمل المجاملة أو التأجيل. صحيح أن بعض رجال الأعمال بادر خلال الأيام القليلة الماضية إلى الإعلان عن مبادرات فردية لتوظيف العشرات، كأول سابقة في البلد وسط انتقادات من البعض بسبب تأخرهم في تقديم مثل هذه العروض، والتزامهم الصمت طوال السنوات الماضية؛ لكن ثمة مقولة مفادها "أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي أبدًا".
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري