صندوق رسائلي

 

عبدالله الفارسي

 

يقولون الأشياء البسيطة الصغيرة هي ما يمنحنا سعادة كبيرة وغامرة!

قبل يومين عصفت بي رياح الذاكرة، وتذكرت إنسانة عزيزة اختفت من عالمي منذ سنوات ولكنَّ ذكراها ما زالت عالقة في قلبي كوشم منقوش على حجر، ما زالت عالقة في عقلي ساكنة في صندوق رسائلي. فتحت صندوق رسائلي الذي احتفظ فيه بأغلى رسائلي وأطهرها، إنِّه صندوق خشبي صغير خصصته للاحتفاظ برسائلي القديمة. تلك الرسائل الورقية الحميمة التي كانت تصلني من أحبتي وأصدقائي قبل انهيار عصر الرسائل الورقية واختفائها واستبدالها بالإيميل التعس والواتساب اللعين.

تلك الرسائل الصادقة التي كنَّا ننقشها بخطٍ جميلٍ، ورائحة أصابعنا مُلتصقة بسطورها، كنَّا نكتبها بحرية مُطلقة دون خوف من الرقيب نملأها بالأنفاس العطرة ثم نلثمها بالقبلات الحارة ونبعثها إلى مرافئ الحب والحنين، ثم نركض إلى أقرب مكتب بريد، نشتري طوابعنا ونلصقها في أعلى المظاريف بلعابنا، ثم نمسحها بأكفنا ونودعها في الصندوق بعيوننا مطمئنين متمنين وصولها إلى يد المرسل إليه؛ وهي محتفظة بنكهتها وصدقها وعفتها وطهارتها.

تلك كانت رسائل الصدق والوفاء، لقد انتهى زمنها! ونعيش اليوم عصر رسائل الزيف والكذب والنفاق.

كنت أحب المراسلة منذ سن مبكرة جداً، كنت أعشق المُراسلة في مرحلة مُراهقتي.. المُراسلة كان لها دور كبير في تنمية قلمي وتهذيب روحي. كنت أراسل شباباً وفتيات من المغرب والجزائر وتونس ومصر، كلها اختفت، ولم يبقَ في صندوق رسائلي سوى رسائل "ماريان"؛ لأنها الرسائل الوحيدة المُعبأة بالصدق والمغلفة بالأدب والمشحونة بالوفاء.

أختي ماريان فتاة جزائرية مسيحية،  كانت من أفضل وأروع من راسلتهم وتعاملت معهم بالورقة والكلمة وتبادلت معهم الحروف والسطر والقلم. كنت انتظر رسائلها بفارق الصبر، وحين تصل رسالتها كنت أتعامل معها بطقوس خاصة، بروحانية مُطلقة، وبتقاليد حازمة، كنت أتجهز لاستقبالها وكأنَّها شعيرة دينية.

كانت فعلاً من أمتع وأجمل الأشياء التي حدثت في حياتي في تلك المرحلة من عمري. بدأت علاقتنا البريدية منذ العام 1985، وكنت حينها في الصف الثاني الثانوي، ظلت رسائلها تتدفق عليَّ حتى صيف العام 1996، وهو العام الذي هاجرت فيه ماريان إلى فرنسا مع زوجها.

لم تكن رسائلها كثيفة، كانت رسالة واحدة كل شهر، لكنها كانت كافية لتمنحني شعوراً كثيفاً بالحياة والنشاط والفرح والأمل لفترة طويلة من الوقت.

في العام 1989 تزوجت ماريان وأرسلت لي صورتها مع زوجها، وكتبت على ظهر الصورة: "هذا زوجي أتمنى أن يكون حاملاً روحاً كروحك". فأعدت لها الصورة وأرسلتها لها بعد أن كتبت تحت كلماتها: "أنت قادرة على تغيير روحه وجعلها كروحك تماماً.. أنت قادرة على تغيير كل الأرواح التي حولك.. أنا متيقن من ذلك كل اليقين".

لقد تزوجت ماريان وأنجبت طفلين جميلين، وظلت رسائلها مُتواصلة، لكنها انخفضت من رسالة كل شهر إلى رسالة كل شهرين حتى طلبت منها بنفسي التوقف والتَّفرغ لأسرتها وعائلتها.

لا أعلم أين ماريان اليوم؟ هل ما زالت في فرنسا؟ هل ما زالت ماريان تعيش هناك في بلاد المُستعمر اللعين؟ أم عادت إلى وطنها الرائع الجميل كما كانت تطلق عليه؟ أو لعلها أصبحت جدة تعلم أحفادها الحب والحكمة! أو ربما فشلت تجربة زواجها لأنها إنسانة نادرة وعجيبة ورائعة، وهذا الصنف من البشر نادرًا ما يكون محظوظاً في الحياة. أو لعلها قررت أن تصبح راهبة؛ لأنها كانت تتمنى ذلك، كانت فعلاً تتمتع بروح راهبة وتمتلك مشاعر وأحاسيس قديسة.

لا أعلم.

جميعهم تلاشوا بسرعة كبيرة وسقطوا من قائمتي، إلا العزيزة ماريان الوحيدة التي بقيت لسنوات في ذاكرتي لقد كانت إنسانة حقيقية غير مُزيفة. كانت رسائلها مُختلفة وكلماتها عبارة عن سطور في الجمال والأمل، والحلم والنسيان. كانت تحدثني عن جمال الجزائر وروعتها، وتصف لي مدنها الكبرى العاصمة الجزائر ووهران وقسنطينة وتلمسان.

كنت أكتب لها عن تاريخ مدينتي البحري الذي تلاشى وانتهى، وأصف لها الحرارة القاتلة معنا وحجم الذباب والبعوض في بيتنا. لم تكن رسائلنا رسائل حب وعشق ومُراهقات؛ بل كانت رسائل نفسية روحية، كانت سطورًا وكلمات في النَّاس والكون والحياة وكأننا فيلسوفان.

كانت تبث لي روحها وحبها للحياة وللناس وللطبيعة بطريقة فلسفية تتناغم بشدة مع روحي وتلتحم بكل جمال مع عقلي.. كانت ترسل لي همومها وأوجاعها وأحلامها المستحيلة.

وبالمقابل كنت أغسل لها أتعابها وأجففها لها مرة في الشهر وأرسلها لها في مظروف مُعطر بالصدق والأمل والأمنيات الشفيفة. وحين تصلها الرسالة كانت تكتب لي في السطر الأول: "بارك الله فيك يا عبدالله.. لقد أثلجت كلماتك صدري".

تزوجت ماريان بسرعة وزادت همومها وأتعابها بسرعة، وكنت الناصح المرشد، كنت الشيخ الإمام، كنت بريئاً معها كطفل لم يبلغ الحلم، وكانت نقية أمامي كطائر الزرزور الجميل.

كتبت لي مرة: "أنت مختلف عن كل الذين يراسلونني، لم تكتب لي كلمة واحدة خادشة للحياء، كل الرجال ينظرون إلى موضع واحد من المرأة، كم أنت طاهر يا عبدالله... ستُعاني كثيراً في حياتك".

فأرد عليها: "لا بأس يا مريان.. حياتنا قصيرة جداً.. إنها أقصر من عمر بعض الخفافيش الأسترالية... لكن زودنا الله بالإمكانيات النفسية الكافية لنحتمل كل الآلام المنتظرة ثم سنتلاشى ونختفي".

لم تكن ماريان فائقة الجمال ولكنها كانت تحمل وجهاً طفوليا آسراً وعينين واسعتين، كان وجهها مشدودًا منحوتا بدقة؛ كوجه ملكة فرعونية يافعة.

في آخر رسائلها قالت لي: "كم أتمنى زيارة مدينتك صور والجلوس بجانبك على تلك الصخرة التي تقول إنها "صخرة الإلهام" واستمع إلى ضربات الموجات على ظهرها".

قلت لها: "الأماني مهمة جدًا.. لكن تحقيقها ليس سهلاً يا مريان.. حافظي عليها وتمسكي بها لتعيشي.. واسكبي كل هذا الجمال الذي تملكين على أطفالك وبيتك".

كانت رسائلنا تعج بالأخوة الرائعة.. وكانت كلماتنا تعبق بالمحبة والبراءة الطاهرة.

في العام 2007 زرت الجزائر الحبيبة، قضيت فيها عشرة أيام من أجمل أيام حياتي، ذهبت للعنوان الذي كتبته لي ماريان في إحدى رسائلها، وصلت إلى المكان/البناية، وصعدت سلم البناية وصلت إلى باب الشقة وقرعت الباب، خرج لي رجل عجوز باسم الوجه باش الملامح، أخبرته باسمي وجنسيتي ففرح بي أيما فرح وحضنني وأدخلني الشقة. قلت له هذه شقة صديق كنت أعرفه منذ سنوات فهاجر إلى فرنسا، فقال لي: "كلهم يهربون إلى فرنسا.. فرنسا دمرتنا ثم سرقت أبناءنا".

جلست أدردش معه ساعة كاملة، كان سعيداً جداً بزيارتي؛ لأنه لأوَّل مرة في حياته يلتقي بشخص من سلطنة عُمان، وكنتُ أكثر سعادة منه، كنت أنظر بين الفينة والأخرى إلى الشقة ومرافقها وأقول هنا كانت تجلس العزيزة ماريان، وهناك كانت تكتب رسائلها.

تلك كانت أجمل مرحلة من حياتي.. انتهت مع انتهاء زمن الرسائل الصادقة ولم يبقَ منها سوى شذاها الجميل يعيش في قلبي ورائحتها العبقة العميقة تسكن في بطن صندوق خشبي صغير "صندوق رسائلي".