سرقة الابتكارات

عبدالله الفارسي

أخبرتكم ذات مقال أنني أذهب إلى الجبال والأودية والوهاد لمُمارسة الصراخ، أصرخ مُفجرًا أحبال حنجرتي وأوتاري الصوتية في وجه الجبال، وفي بطون الأودية كلما ضاقت النفس واختنق الصدر وضاق الفؤاد، فلا أحد يحتمل ما في صدري إلا الطبيعة فهي الأم الرؤوم والصدر الحنون.

الآن غالبية النَّاس يصرخون في الواتساب، الجميع يصرخ بطريقته، يرسلون صراخهم ورسائلهم الصوتية عبر هواتفهم، لتحقيق غايتين؛ الأولى: وهي الأساس بقصد التنفس والتخلص مما يعتمل في صدورهم من شعور بالظلم والقهر والاختناق. والثانية: لعلَّ الله يُسخر لهم من يستمع إليهم، ويُعيد إليهم حقوقهم وإن كان هذا الأمر من عاشر المستحيلات معنا!

وصلني مقطع صوتي متداول من جزأين لفتاة عُمانية مثابرة رغم الإحباطات، ومجتهدة رغم الخذلان، كانت تصرخ في المقطعين بصوت هادئ مُتزن، تبث فيه شكواها وعجزها عن الحصول على حقها المسلوب وتعبها المنهوب وسهرها المسروق. كانت تتحدَّث بصدق كثيف ونبرة حازمة ولهجة متألمة حارقة، فنغمة صوتها العميقة وحشرجة حنجرتها الرقيقة تبين بأنها واقعة في ظلم فادح، وأن روحها تتألم، وقلبها يتوجع، وأنَّ أفضل علاج للنفس المكلومة هو الفضفضة والتعبير عن الإحساس بالظلم والبوح بالحقيقة وإخراج القهر من الصدر، وهذه أفضل وأنجح الطرق لإيصال الصوت وإراحة النفس، وكشف الظلم وفضح الظالم أمام الخلق والخالق.

ومن خلال طريقة حديثها وتقطع أنفاسها تستشف أنَّ الفتاة صادقة في كل كلمة نطقت بها، وأن حديثها هو رسالة استغاثة عاجلة لمن يهمه الأمر، إذا كان هناك من يهمه هذا الأمر. أرادت الفتاة أن تُسمع صوتها إلى كل من يهمه الإنصاف، وإظهار الحق وإبطال الباطل، إذا كان هناك من يكترث أصلًا للحق والحقوق.

أرادت الفتاة أن تصرخ بصوت مبحوح إلى الجهة المُختصة والمسؤولة عن هكذا قضايا، هذا إذا كان أساسا هناك جهة مختصة تُعيد الحقوق إلى أصحابها، وتطبطب على كتف المظلوم وتمسح على رأسه، وتنتزع له حقه من بين أسنان السارق ومخالب الظالم.

وإذا لم يكن هناك جهة تُعيد الحقوق لأصحابها؛ فالفتاة قد رفعت صوتها وقضيتها تلقائيًا إلى السماء فاخترق صوتها طبقة "الترابوسفير" وتجاوز طبقة "الإكسوسفير" متجهًا مباشرةً إلى السماء العُليا؛ حيث الله، وعند الله تجتمع الخصوم.

تحدثت الفتاة بإسهاب تفصيلي وواضح عن مشروعها الكيميائي الطبي الإنساني الذي اشتغلت عليه منذ بداية ظهور الجائحة، وعكفت عليه آناء الليل وأطراف النهار، نزفت جهدًا ووقتًا وصحةً وسكبت مالًا وتعبًا وأرقًا وعرقًا، يبدو من صوتها الهادىء المُحترق ونبرتها الساكنة اللاهثة، بأنها عانت الأمريْن من التعب والجهد والسهر، حتى وصلت إلى تلك المرحلة المتقدمة جدًا من النتائج في مشروعها. فقد توصلت بتوفيق الله إلى اكتشاف مُركب كيميائي ناجح جدًا للقضاء على الفيروس؛ فابتهجت الفتاة بعملها، وهنأت نفسها بصبرها ومثابرتها ونجاحها من باب: "إذا لم يُهنئك أحد هنىء نفسك، وإذا لم يُكرمك أحد فأكرم نفسك".

لقد أرادت أن تخدم وطنها أولًا، وتخدم الإنسانية بهذا العمل الإنساني العلمي العظيم، فتقدمت لعدة جهات خاصة وحكومية طالبة منهم الدعم المادي والفني الممكن للمضي قدمًا في تطبيق المشروع وتفعيله ليخرج إلى النور وتلمسه القلوب المنتظرة والأرواح المنهكة.

وكالعادة معنا في هكذا دراسات أو أفكار أو مشاريع أو اختراعات أُوصدت كل الأبواب في وجهها، فليس هناك من يُقدم يد العون أو يدعم الاختراعات العلمية ويصفق للاكتشافات الطبية. هناك من يسرق الجهود و"يقرصن" الأفكار ويختلس المشاريع ويسجلها باسمه وينسبها لنفسه.

حملت الفتاة ملفها الثمين ومشروعها الجليل وعادت إلى بيتها، لعل الله يُحدث لها بعد ذلك أمرا. وفجأة وصلها اتصال من مركز علمي معروف، يدعي أنه يدعم العقول ويُساهم في تبني الأفكار وشعاره مساندة المبتكربن والأخذ بيد المخترعين، فابتهجت الفتاة لذلك الاتصال ابتهاج الأرض العطشى بالمطر.

لكنه للأسف لم يكن غيثًا مغيثًا غدقًا؛ بل كان مطرًا وابلا عاصفًا ضارًا مخربًا. لقد تواصلوا معها ليس بغرض تهنئتها ورفع معنوياتها ودعمها، وإنما بهدف السطو على مشروعها وسرقة جهدها وابتلاع تعبها، بالتعاون والتآمر المُشترك مع أحد الجامعات الخاصة التي تدعي الأمانة وتتشدق بالنزاهة وترفع علم الشرف.

وفعلا تم الاستحواذ على المشروع وسرقته بالكامل في وضح النهار وبمنتهى الصفقة والوقاحة، وخرجت الفتاة كما يقول المثل المصري: "خرجت من المولد بلا حمص" وكما يقول العرب: "رجعت بخفي حنين".

فعادت إلى بيتها بعد أن سرقت ونسخت أوراق مشروعها بالكامل. وقالوا لها بكل دناءة نفس ووقاحة خلق "الآن بإمكانك أن تذهبي وتبحثي عن من يُدعم مشروعك".

وكانوا في غرفهم المقفلة يشتغلون في مشروعها بعد أن تاكدوا بأن المعادلات الكيمائية والمركب الناتج منها والتي أوردتها الفتاة في مشروعها صحيحة تماما ومتطابقة، وفعالة بنسبة عالية وأن الفتاة مُبدعة وصاحبة اختراع حقيقي.

ألا تستحق هذه المجتهدة المخترعة أن تنال براءة اختراع ومكافأة على جهدها، وعملها وتعبها ومثابرتها طوال سنة ونصف السنة؟

السؤال هنا: سمعتُ أن هناك وزارة تسمى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، فأين موقعها على خارطة الضمير العلمي؟ هل ما زالت أبوابهم مشفرة تمنع دخول المراجعين والمشتكين؟

استيقظوا يا جماعة "البحث العلمي"، فهناك من يسرق بحوث الآخرين وعلمهم وجهدهم وتعبهم وسهرهم وعرقهم، استيقظوا يرحمكم الله!