عبيدلي العبيدلي
في لحظة تاريخية فاجأت الجميع، أرغمت آلة الحرب الصهيونية على أن تقبل وقف عُدوانها الذي صب جام حقده على كل ما هو فلسطيني، فوافق الكيان الصهيوني مرغمًا، بعد أن فرغت جعبته وجعبة حُلفائه من أي عرض يمكن أن يُقدمه للثورة الفلسطينية وتقبل به؛ كي تحفظ ماء وجهه، وتُساعده على القبول بوقف إطلاق النار. فوجدنا نتنياهو مُكرها، ومن طرف واحد، ينصاع لنداءات حُلفائه، ومن يصنعون القرار في إداراته، فيعلن وقف عملياته العُدوانية، ويوافق على "تجميدها" ضد مدن وبلدات فلسطين المسالمة.
ليس هناك من يُجادل بأن الثمن المشرف الذي دفعته فلسطين كان باهظاً، سواء في الممتلكات أو في صفوف السكان، فإلى جانب الدمار الذي ألحقته آلة الحرب بتلك المدن، وعلى وجه الخصوص ما كان منها في قطاع غزة، كان هناك الضحايا من السكان الذين تجاوز عدد جرحاهم الألوف، والشهداء الذين فاقت أرقامهم المئات، نسبة عالية منهم من الأطفال والنساء. لكن مقابل ذلك كان هناك تمريغ أنف المؤسسة الصهيونية، بما في ذلك جناحها العسكري المتعجرف في الوحل، ورضوخها للقبول بوقف عملياتها العسكرية من طرف واحد فقط، دون أن نغفل هنا ما تكبدته من خسائر مادية وبشرية.
على هذه الأرضية تميزت هذه الانتفاضة الفلسطينية عن سواها ممن سبقنها بمجموعة من الحقائق التي استفردت بها، والتي تُشكل محصلتها ما يجعلنا نطلق عليها انتفاضة "التصحيح" الفلسطينية. هذا التصحيح الذي نُشير له، وضحت بعض معالمه خلال العشرة الأيام العصيبة التي عاشتها انتفاضة الأقصى، والبعض الآخر ستكتمل ملامحها خلال الفترة المقبلة.
لقد صححت تلك الانتفاضة الباسلة مجموعة من المُسلمات الخاطئة من جانب، ورسخت من جانب آخر مجموعة أخرى من الحقائق الممزوجة مع تلك المسلمات التي غابت عن الذاكرة السياسية، ليست العربية فحسب، وإنما الدولية أيضًا. وتوزع ذلك الخليط الهجين على الجوانب العسكرية والسياسية على حد سواء، متجاوزا الإقليمية نحو الأممية أيضاً.
أول تلك الحقائق التي هشمتها انتفاضة الأقصى، وفي فترة قصيرة جداً بمقاييس الحروب؛ هي: مشاريع التطبيع التي انتعشت أسواقها في الآونة الأخيرة، كما تهاوت أمام صمود فلسطين كل دعوات إمكانية التعايش مع الكيان الصهيوني، وتمزقت أيضًا أوراق "صفقة القرن" التي فقدت قيمتها في أسواق الصراع الفلسطيني- الصهيوني. وتوارت عن الأنظار، ولو بشكل مؤقت، خرائط مشاريع ما يُسمى بـ"الشرق الأوسط الكبير". وبالقدر ذاته أثبتت أن العدو الصهيوني، لا يُتقن لغة سوى لغة الحروب، ولا يفهم مفردات خارج قواميس المقاومة المسلحة.
فبفضل ما قدمته "انتفاضة الأقصى"، أو كما يطلق عليها البعض الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، من تضحيات، تلاشت أبخرة أدعية التطبيع أمام رياح تلك الانتفاضة، وترسخت من جديد الحقيقة التي جرى تمويهها، وهي أن العدو الصهيوني، بطبيعته لا يستطيع أن يفهم مفردات أية لغة غير لغة الحرب.
أما ثاني تلك الحقائق التي تهاوت أمام ضربات سواعد شباب القدس الفلسطينية فهي المقولة التيئيسية التي رُوِّج لها في الآونة الأخيرة، ومفادها تسرب الوهن إلى أعضاء جسد الثورة الفلسطينية. ومن ثمّ- وكما تدعو تلك المقولة- لا مناص من الرضوخ لشروط العدو الصهيوني، والقبول بما يطرحه من مشروعات يدعي أنها عادلة ومعاصرة!!
لم تكف تلك النزعة اليائسة، والمفرطة في تشاؤمها، عن إدارة الأسطوانة المشروخة لدعوات الرضوخ لتفوق العدو الصهيوني عسكريًا. وفي هذا السياق انبرى من بين صفوفها من كَال التُّهم للقيادة الفلسطينية. لسنا هنا بصدد الدفاع عن القيادة الفلسطينية، فذلك حقٌ لا يُملكه أحد سوى أبناء فلسطين، لكن حتى وإن صدقت المقدمة، فذلك لا يجر إلى صحة الاستنتاجات المبنية عليها؛ فهذا منطق صوري لا يفسر ظواهر ولّدَهَا الصراع الفلسطيني- الصهيوني، بكل تعقيداته.
ثالث تلك الحقائق، وفي سياق الإشارة إلى القياد الفلسطينية، وجهت سواعد الشباب الفلسطيني الذي كان يخوض معاركه بتصميم عفوي، لكن بذهنية واعية، أن هناك جيلًا فلسطينيًا شابًا جديدًا، يحمل على عاتقه استعادة حقوق الشعب الفلسطيني، وهو بذلك ينفي تصورات كل من توهّم أن هذا الجيل قد فقد ذاكرته التاريخية، ولم يعد قادرًا على استلام راية الحرب من الجيل الذي سبقه. ومن ثم فهو -هذا الجيل وسلوكياته النضالية- يؤكد بإصرار على أنه قادر بفعل عناصر تكوُّنه أن يضع مقاييسَ جديدةً في أساليب التعامل مع العدو الصهيوني، تُلقِّن هذا الأخير دروسًا لم يعرفها من قبل، وترغمه على خوض الصراع بشروط هذا الجيل، وليس بقوانين عربدة آلة الحرب الصهيونية. فقلبت تلك المقاييس السحر على الساحر، ووضعت بين يدي الثورة الفلسطينية أدوات لا يُحسِن استخدامها إلا من ينتمي لفكر هذا الجيل، وإصراره، وسعة أفقه.
وعلى نحو موازٍ، وفي نطاق التصحيح الذي حققته- وما زالت تمارسه- انتفاضة التصحيح الفلسطينية، الجيل العربي الشاب المقارب سنيًا لذلك الجيل الفلسطيني، والذي هو الآخر كان ضحية آلة الإعلام الصهيوني والعربي المتصهين من جانب، ويأس جيل آبائه وأمهاته من جانب آخر. لقد اكتشف الجميع تلك الطاقة المتجددة في سلوك هذا الجيل العربي الذي بادر بقرار ذاتي، واستجابة مقتنعة إلى التعاطف الإيجابي المشوب بالتعاطف المتأجج بالأمل المملوء بالثقة في عدالة القضية الفلسطينية وحتمية انتصارها. وجدنا هذا الجيل يُسخِّر خبرته في أدوات الإعلام الحديثة من منصات التواصل الاجتماعي وما يدور في فلكها؛ كي يتناقل الضربات التي كانت تكيلها الانتفاضة الفلسطينية المباركة إلى آلة الحرب الصهيونية كي يرغمها على وقف جنون انتقامها اللإنساني.
لقد جردت انتصارات انتفاضة التصحيح الفلسطينية آلة المؤسسة الصهيونية من أقوى أسلحة عربدتها العسكرية، وانتزعت من بين يديها مكونات غرور تفوقها الذي ترفض مناقشته؛ وهو مكسب لا ينبغي التقليل من شأنه في مسارات الصراع الفلسطيني- الصهيوني.