فقير في السجن

 

عبدالله الفارسي

 

غالباً تجارب السجن ليست سيئة؛ لأنَّ في كل تجربة مريرة هناك درس ثمين جدًا وحكمة عميقة ودروس وعبر لا تزول من الذاكرة، ولعل اهم الدروس العميقة التي تعلمتها من تجربة السجن درسا غاية في الخطورة والأهمية وهو "لا تحاول أن تكون بطلاً في المناخات المهزومة، وإن كنت تملك ميكانزمات التعنتر فاحذر أن تتعنتر في البيئات التي اعتادت الانهزام واستمرأت الهروب وعشقت الاختباء والانطفاء، فلن يسمح لك أحد أن تعتلي قمة أو تتربع فوق سحابة"!

في قبيلة الأموات حاول جاهدًا أن تتمتع بموهبة الموت، حاول أن تنافسهم في موتهم ونومهم وشخيرهم، لا تحاول الاستيقاظ، وإلا ستصبح مطرودا منبوذا من القبيلة.

دعوني أقص عليكم قصة اصطدمت بها أثناء سجني العام الماضي، إنه موقف يستحق الرسم والنقش والكتابة، فحين وضعوني في زنزانتي، كانت هناك زنزانة أخرى بجانبي وكان يقبع فيها شاب يافع في عمر ابني أظنه في الخامسة والعشرين أو ربما السادسة والعشرين من العُمر. الليلة الأولى قضيتها في زنزانتي بمفردي لأنني كنت مصدوماً بالحادثة التي حدثت معي، لكن في الصباح تكيفتُ مع الواقع وهضمت الواقعة تمامًا وتأهبت نفسياً لاستقبال أسوأ النتائج. ثم ذهبت لزيارة رفيقي اليافع في الزنزانة الأخرى، فقلت له: ما رأيك انتقل معك؟ سنحتاج إلى بعضنا أيُّها الشاب في هذا المكان الخانق. فضحك وقال: حياك الله يا عمي.

فسحبتُ فراشي إلى الزنزانة المجاورة، وبدأنا ندردش مع بعضنا البعض، حكيتُ له قصة وأسباب سجني فضحك واندهش وتعجَّب، وحكى لي سبب سجنه فغضبت وحزنت وتألمت.

سأروي لكم حكاية هذا الشاب الفقير المسكين، ورجاءً ضعوا مناديلكم جاهزة بجانبكم، ربما ستحتاجون إليها.

قال لي الشاب السجين الفقير: لقد وفقني الله في عمل بعد طول بحث وانتظار وكان في مدينتي وقريباً من أسرتي، حيث اشتغلت عاملًا في شركة ضخمة، شركة لها تاريخها وحجمها واسمها في كل أرجاء الوطن شرقه وغربه وشماله وجنوبه براتب 300 ريال، وبعد 6 أشهر من العمل اقترضت 12 ألف ريال من البنك اللعين كأيِّ موظف عُماني فقير، فرممتُ بيتنا المُتهالك وأصلحتُ غرفاته المندثرة؛ فابتهجت أمي وفرحت أخواتي بهذا الإنجاز العظيم، والذي كان حلماً من أحلام أسرتنا الكبيرة، فكانت فرحتهم بالنسبة لي تساوي الدنيا بما فيها وتساوي السجن الذي أنا فيه حالياً.

يضيف: قالت لي أمي جملة عظيمة ما زالت تسري في عروقي وتبث الحياة في صدري، قالت: أسعدك الله يا ولدي كما أسعدتنا.

وبعد ستة أشهر من تاريخ اقتراضي فاجأتني الشركة بنقلنا إلى مسقط، فحاولتُ الاعتراض والاحتجاج وأوضحت لهم صعوبة حياتي في مسقط، لكن دون جدوى. فذهبت إلى مسقط مضطرا، ثم قست علينا الشركة كثيرًا؛ حيث لم يوفروا لنا سكنًا ولا طعامًا، فأضطررنا للسكن بالإيجار والأكل في المطاعم. وأصبح وضعي المادي تعيسًا للغاية؛ لأنني لم أحسب حسابًا إلى موضوع الانتقال إلى مسقط مطلقًا، فلا يبقى من راتبي سوى مصروف جيبي فقط بعد خصم قسط البنك، وقبل منتصف الشهر لا يكون معي ريال واحد لشراء وجبة عشاء. فاتخذت قرارًا اضطرارياً وهو تقديم استقالتي ظناً مني بأنني سأحصل على عمل بديل في مدينتي، مدينة الشركات الكبيرة.

لكن للأسف كانت كل الأبواب مؤصدة وكل الشركات مُغلقة؛ بل كانت كل المدينة ميتة تماماً خالية من أسباب الرزق ومكانيزمات الحياة، فرفع عليّ البنك قضية مديونية، وأعطاني القاضي 6 أشهر فرصة للتصرف وتدبير الأقساط المتأخرة، لكنني للأسف لم أجد عملا ولم أفعل شيئًا سوى التسكع في الشوارع دون هدى كالمجنون وقرع أبواب الشركات المُتواجدة في المدينة دون جدوى. فحكم عليَّ القضاء بالسجن بناء على ضغط البنك.

وكما ترى أنا هنا أزور السجن شهرا، وشهرا أكون خارج السجن، وما زالت كل الأبواب مؤصدة في وجهي لا عمل ولا أمل!

يقول: أحاول في الشهر الذي أكون فيه حرًا البحث عن أي عمل أو أي مهام وتكاليف أو أي شيء استطيع من خلاله جمع مبلغ 200 ريال فقط لأركض بها إلى البنك لإبطال مفعول قرار سجني. فإذا دفعت القسط يمددون فترة إطلاق سراحي وإذا لم أدفعه أجد سيارة الشرطة تنتظرني أمام بيتي ويأخذوني مباشرة إلى السجن.

ويمضي يسرد قصته: المصيبة أنني لم أجد عملاً، ماذا أفعل؟ أنا مستعد للعمل في أي مجال وفي أي عمل مهما كانت صعوبته، لكن هنا في مدينتي لا استطيع الابتعاد عن أسرتي. انتهت القصة.

لقد عشتُ أسبوعاً كاملاً مع هذا الشاب الرائع، كان دمث الخلق عزيز النفس كريماً بشوشاً ضحوكاً، كنت استيقظ في منتصف الليل فأفتح عيني الصغيرتين فأراه ساجداً راكعاً تاليًا للقرآن، لقد علمني قيام الليل وغرس في قلبي حب الصلاة في العتمة والسجود في الظلام. وحين خرجت من السجن حاولت جاهدا مساعدته.

أرسلت أكثر من رسالة للأثرياء والأغنياء الذين أعرفهم أو التواصل مع من يعرفونهم، وقرعتُ مجموعة أبواب كبيرة مزخرفة وأوقفت عدة سيارات ضخمة فارهة لأجل تقديم المساعدة المُمكنة لهذا الشاب الطيب الفقير لتخفيض مديونيته أو عمل شيء لأجله، لكن للأسف لم أحقق له شيئاً يستحق الذكر، وذهبتْ كل رسائلي وجهودي أدراج الرياح، وكأن لا حياة لمن تنادي ولا آذان لمن تُخاطب وكأنك تنفخ في الرماد.

هناك العشرات، بل ربما المئات، من هذا الصنف الفقير العزيز الشريف من شبابنا في الزنزانات وخلف القضبان، فمن لهم؟!

أسأل الله العلي القدير أن يُسخِّر لهم من يمد لهم يد العون ويعطف عليهم ويفرج كرباتهم. آمين.