عبيدلي العبيدلي
مخطئ من يحصر ما جرى وما زال مستمرا في فلسطين، في المواجهات الأخيرة التي اندلعت في القدس فقط، بين المحتجين الفلسطينين والمستوطنين الإسرائيلين في 13 أبريل 2021، والتي لم تلبث أن قادت إلى تلك الاحتجاجات الفلسطينية المُسلحة التي عمت مدن وقرى فلسطين؛ بما فيها تلك التي تضم عرب 1948، والتي تصدت لممارسات المستوطنين الإسرائيلين العدوانية على الممتلكات الفلسطينية، عندما اقتحمت زمرة مُتطرفة من أولئك المستوطنين المسجد الأقصى.
جرى ذلك الاقتحام العدواني بإيعاز من سلطات العدو الصهيوني، وحماية سافرة من الشرطة الإسرائيلية. لكنه تطور، في نهاية المطاف كي يصل إلى حرب شبه نظامية تُستخدم فيها مختلف أنواع الأسلحة المتطورة من قبل ثوار فلسطين، الذين فاجأوا العدو الصهيوني بما يملكونه من صواريخ متطورة، وما يتبعونه من تكتيكات قتالية هزت أركان المؤسسة العسكرية والاستخباراتية الصهيونية، وشككت في مستوى قدراتها العسكرية والمهنية على التوالي.
ولا بُد من أن نُسجل هنا إلى أنه قبل حوالي شهرين من اندلاع ثورة القدس التي نتحدث عنها، كانت توقعات الكثيرين من مراكز الدراسات الرصينة التي كانت ترصد تطورات منابع الصراعات العربية – الصهيونية، بمن فيهم المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. كما تُشير صحيفة "نيويورك تايمز" (New York Times) الأمريكية، إلى أن "أكبر تهديد محتمل وآني لإسرائيل قد يكون في إيران على بُعد ألف ميل أو عبر الحدود الشمالية مع لبنان. (وتمضي الصحيفة الأمريكية مؤكدة أنه) عندما التقى دبلوماسيون مبتعثون لدى إسرائيل في مارس الماضي مع جنرالَين إسرائيلين يشرفان على الجوانب الإدارية للشؤون العسكرية الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية؛ كان الجنرالان مطمئنين لعدم وجود أي مخاوف بشأن تفجر العنف، ويحتفيان بفترة طويلة من الهدوء النسبي، وفقا لدبلوماسي أجنبي رفيع طلب عدم الكشف عن هويته"، بحسب ما نشرته الصحيفة الأمريكية.
لكنّ التاريخ يُؤكد على أن الصدامات العربية- الصهيونية تعود جذورها الحديثة إلى أعمال الاشتباكات العربية اليهودية في ربيع العام 1920، والعام الذي يليه، عندما هبت موجة مواجهات قادها رواد القومية العربية حينها، ضد ما عُرف باسم "وعد بلفور" الذي أعلن تبني بريطانيا حينها لحق "اليهود في وطن خاص بهم". وشجعت الاستخبارات البريطانية في تلك الفترة أعمال الشغب، وتخفت وراء "مذابح لليهود في القدس والخليل ويافا وحيفا". كل ذلك من أجل إشاعة جو من العنف العربي الذي يبُرر "تكوين منظمة الهاغانا اليهودية للدفاع عن النفس في العام 1920".
ومنذ ذلك التاريخ توالت الحروب العربية- الإسرائيلية، التي كانت أهم نتائجها ما عُرف بنكبة 1948، وهزيمة 1967، وحرب أكتوبر 1973، وغزو لبنان 1982. محصلة كل ذلك تهجير نسبة عالية من سكان فلسطين الأصليين، واستيلاء العصابات الصهيونية على ممتلكاتهم وأراضيهم، وتوسع سكاني صهيوني ابتلع ما يزيد على 80% من الأراضي العربية الفلسطينية، بما فيها القدس المحتلة. يُضاف إلى ذلك الأراضي العربية الأخرى التي سلبت من مصر وسوريا، بل وحتى الأردن، ولبنان.
لم تقتصر المواجهات الحالية على القدس؛ إذ قادت تلك التحرشات الصهيونية بالمصلين الفلسطينين إلى اندلاع احتجاجات متزامنة ومتصاعدة في مجموعة من المدن الفلسطينية والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ثم امتدت كي تصل إلى تل أبيب وعسقلان وأراض أخرى تحت السيطرة الصهيونية.
القصد من وراء هذه النبذة المختصرة التأكيد على قضيتين أساسيتين هما: أن الصراع الفلسطيني – الصهيوني قديم، وليس وليد اللحظة التي اندلعت فيها الانتفاضات الفلسطينية الحديثة، والتي كانت ردة فعل طبيعية على معاناة الشعب الفلسطيني من كل سياسات الاستلاب القائم على القمع الذي مارسته العصابات الصهيونية ضد ذلك الشعب، وهو صاحب الحق الطبيعي والتاريخي في أرضه المسلوبة منه. أما الثانية فهي أن تلك السياسات الصهيونية المغرقة في قمعها للمواطن الفلسطيني وسلبها للمزيد من أراضيه، لم يكن ليتم دون ذلك التعاون الوثيق والمباشر بين تلك المؤسسة الصهيونية، ودوائر الاستعمار الغربي الأوروبي في المراحل الأولى، قبل أن تلتحق به الولايات المتحدة في أعقاب الحرب الكونية الثانية.
مرة أُخرى.. ساذجٌ من يُحاول أن يحجم هذا الصراع التاريخي في المواجهات الأخيرة التي عبرت في أشكالها وجوهرها عن انفجار فلسطيني مكتوم يعود تاريخه إلى ما يربو على قرن من الزمان، دون أن ينفي ذلك أن الصاعق الذي فجر فتيل قنبلة الصدامات الأخيرة، إنما هو موجة العنف الأخيرة التي انطلقت في أعقاب شهر من التوترات المتصاعدة في القدس، وانفجرت في 13 أبريل 2021. جاء ذلك أيضًا في أعقاب تأجيل عقد الانتخابات التشريعية الفلسطينية في 22 مايو 2021، عندما "فرضت السلطات الإسرائيلية قرارات تحول دون مشاركة فلسطينيو القدس في الانتخابات ومنعهم من ممارسة أي نشاط انتخابي فيها".
إذًا، نقطة البداية كانت تلك المواجهات بين المحتجين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية والمستوطنين في القدس في منتصف أبريل 2021، والتي أدت حينها إلى "إصابة ثمانية فلسطينيين برصاص الشرطة الإسرائيلية فيما جرى اعتقال آخرين خلال مواجهات في محيط البلدة القديمة بالقدس الشرقية. واستخدمت قوات الشرطة الإسرائيلية الرصاص، وقنابل الصوت والغاز المسيل للدموع؛ لتفريق المتظاهرين الفلسطينيين الذين خرجوا تنديداً باعتداءات المستوطنين على منازل وممتلكات الفلسطينيين بأحياء القدس، ورفضًا لاقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى التي تتم بحماية الشرطة الإسرائيلية... وفي 23 أبريل شهدت بلدات: العيسوية وسلوان والصوانة ووادي الجوز والشيخ جراح والطور، مواجهات، واندلعت اشتباكات متفرقة بين القوات الإسرائيلية المقتحمة للبلدات والشبان الغاضبين، وأغلقت بعض الشوارع في الأماكن المذكورة بالحاويات المحترقة، ورد الشبان بإلقاء الحجارة والمفرقعات على جنود الجيش الإسرائيلي. وفي بلدة سلوان اشتعلت النيران في محيط إحدى البؤر الاستيطانية خلال تبادل إطلاق المفرقعات والقنابل في حي بطن الهوى، كما أطلق الشبان المفرقعات باتجاه البنايات التي سربت للمستوطنين مطلع أبريل 2021".
وفي حي الشيخ جرّاح، نقلت وكالات الأنباء العالمية عن شهود عيان "أن عشرات المستوطنين ألقوا الحجارة والزجاجات الحارقة على مركبات أهالي الحي، وحاولوا اقتحام منازلهم، تحت حماية الشرطة الإسرائيلية، قبل أن يتصدى لهم الشبان، ولاذوا بعدها بالفرار... وفي 24 أبريل 2021، أعلن الجيش الإسرائيلي، أنه رصد إطلاق 36 قذيفة صاروخية من قطاع غزة باتجاه الأراضي الإسرائيلية، لافتا إلى أن القبة الحديدية الإسرائيلية اعترضت 6 فقط. وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي في بيان: "خلال ساعات الليلة الماضية أطلقت 36 قذيفة صاروخية من قطاع غزة نحو الأراضي الإسرائيلية حيث اعترضت القبة الحديدية 6 منها بينما سقطت معظم القذائف في مناطق مفتوحة ولذلك ووفق السياسة المتبعة لم يتم اعتراضها". وأضاف أدرعي: "بعد تقييم الوضع في القيادة الجنوبية العسكرية تقرر عدم فرض أية قيود على الجبهة الداخلية في منطقة قطاع غزة".
هذه الأحداث كانت الأسباب المباشرة التي أدت إلى اندلاع الصراع، وتطوره حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم من مواجهات عسكرية بين أبناء البلد الأصليين والذين هم الفلسطينيون، والمستوطنين الذين نقلتهم من بلدانهم الأصلية بوارج، وأساطيل طائرات عواصم الاستعمار الغربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى.