جمال النوفلي
قديمًا كان مقدار دخل قرية ما يعتمد على الجهد الذي يبذله أفرادها العاملون بقواهم الجسدية، وكلما زاد عدد أفراد القرية زادت إمكانيتهم في الإنتاج، وبالتالي الحصول على دخل وفير للقرية، ومع التقدم الحضاري ودخول العالم في عصر الآلة لم يعُد العنصر البشري عاملاً أساسياً في الإنتاج كما كان في السابق لكنه مع ذلك ظل مكوناً رئيساً للإنتاج بجوار الآلة.
أما في العصر الحديث ومع دخول العالم إلى عصر جديد تمثل فيه الطاقة والمعرفة القوتين الأكثر تأثيراً وثروة في العالم، فإنَّ عوامل أخرى أصبحت تؤثر على معادلة الإنتاج والعمل والدخل، فأصبح دخل بعض الدول لا يتعمد أساساً على جهود وقوة أجساد أفرادها ولا على ذكائهم، في نظام اقتصادي رأسمالي عُرف بنظام(تبادل الثروات)، فكل ما تفعله بعض الدول هو بيع مخزونها من الطاقة النفطية أو الغازية، أو أي منتج خام آخر لدول أخرى يتوفر لها الآلة والمعرفة، والعنصر البشري العامل مقابل ثروة كبيرة تكفي لخلق دولة حديثة متقدمة، وحياة كريمة لمواطنيها، بأسلوب اقتصادي يسمى نظرياً بالاقتصاد الريعي؛ حيث إن دخل الدولة لا يساوي مقدار الجهد الذي يبذله أفرادها وليس نتاج جهد مبذول من أفرادها.
في الدول المنتجة يكون دخل الدول قائماً على جهود أفرادها، ومؤسساتها المختلفة وشركاتها سواء داخل أراضي الدولة أو خارجها، أما في الدول ذات الاقتصاد الريعي فمواردها ممّا تحصل عليه من أموال من الدول الأخرى نظير بيع ثرواتها، وينتج من هذا النظام مشاكل عدة منها: اختلال في التركيبة السكينة، ومشاكل كالبطالة والبطالة المقنعة والرجعية والتخلف، ومشاكل في توزيع الثروة، فتتجه معظم الدول الريعية إلى الخيار الأسهل والأكثر عدلاً والأعظم ضرراً على المدى الطويل، وهو توفير حياة ذات رفاهية عالية لمواطنيها عن طريق جلب واستيراد كل وسائل الراحة والخدمات لهم صحياً وتعليمياً وترفيهياً، وتجلب أيضاً الأيدي العاملة للقيام بهذه الخدمات نيابة عنهم.
وينتج عن هذا النوع من الاقتصاد أفراد لا يؤمنون بأهمية العمل وقيمة المهارة؛ إذ لا تتولد حاجة ماسة للتعلم واكتساب المهارات، وتغيير الأنظمة الاجتماعية لمواكبة الدول المتقدمة، فهم يدركون أن ما يحصلون عليه من رواتب وثروات وخدمات هي حق لهم بحكم مواطنيتهم فقط، كما أنهم يدركون أن ما يحصل عليه الآخرون من إخوتهم المواطنين من ثروات طائلة، أو مناصب عالية أو مشاريع تجارية كبيرة سواء في دولتهم أو في الدول الريعية المجاورة هو ليس نتاج مهارات خارقة، ولا ثمرة جهود مضنية ولا نتيجة تفوق تعليمي، فطالما أن الحكومة تقوم بدورها في تحصيل الثروات من بيع الطاقة، وتوفير الخدمات المجانية، ووظائف للمواطنين بدخل عالٍ وجهود قليلة فالكل راض وسعيد.
غير أنَّ الحقيقة القاسية هي أنَّ كل هذه الاقتصاديات هي عبارة عن توزيع الثروة الطبيعية على الأفراد دون جهد مقابل، ودون أدنى إنتاج حقيقي، وحينما صحا الناس على أزمة هبوط أسعار النفط، وتكشفت حسابات بعض الحكومات بديون تفوق دخلها السنوي، حينها بدأ الاقتصاديون بدراسة مقدار مساهمة إنتاج الفرد في دخل الدولة ليجدوا أنَّ المساهمة لا تساوي شيئاً مقابل الدخل؛ أي أن الدولة تُعطي خدمات للشعب أكبر بكثير مما ينتجه، وهذه الحقيقة إدراكٌ لواقع أننا نسقط في هوة سحيقة لا قرار لها، ما لم يُتدارك الوضع.
هنا كانت الحاجة الحتمية لإعادة هيكلة الاقتصاد ليكون اقتصادا إنتاجيًا قائمًا على جهود حقيقية يقوم بها أفراد ماهرون، ومؤسسات وطنية مُنتجة لسلع ذات قيمة مضافة، تُساهم في الحفاظ على أموال الداخل، وجلب الأموال من الخارج؛ الأمر الذي يتطلب تصحيحًا في استراتيجيات العمل، وتغييرًا جذريًا في قوانين التجارة وما يتعلق بها؛ وذلك بتشجيع الأفراد على الإنتاج الحقيقي الذي يدر الدخل بدلًا من الحصول على وظائف مريحة برواتب عالية تُرهق ميزانية الدولة.
وبالتالي استبدال مفهوم العمل لدى العمال من "الحضور لمقر العمل من الساعة كذا وحتى الساعة كذا مقابل رواتب ثابتة مضمونة" إلى مفهوم "العمل المُنتج" وهو بذل مجهود ما في مشروع ما لإنتاج يُحقق قيمة مضافة تعود أو تُساهم في مردود عالٍ له وللمؤسسة.
لهذا لزم توجيه عميلة التوظيف في الدولة بتقليل مزايا الوظائف الحكومية وشبه الحكومية المريحة، وتشجيع الأفراد على الانخراط في المؤسسات الصناعية والتجارية المنتجة، وتشجيع ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وأصحابها؛ ليساهموا في خلق فرص عمل جيدة وخلق اقتصاد إنتاجي حقيقي قائم على جهود ومهارات أفراد الشعب نفسه وليس اقتصادا ريعيا معتمدا على سلعة أو سلعتين يمكن أن تطيح به أي قرارات سياسية نفطية تصدر من دول أخرى.
وليكون دخل الدولة مبنياً على تجارتها الدولية، وعلى سواعد وجهود مواطنيها ومقيميها من خلال ما تحصل عليه من رسوم وضرائب مقابل الخدمات التي تقدمها لهم.