كفى بالموت واعظًا

 

د. رضية بنت سليمان الحبسية

يُولد الإنسان ولا يملك من أمره شيئاً، فيكبُر والحياة بحلوها ومرها مُختبرات دروس وعبر،  لا يُدركها الفرد إلّا بعد حين. ولعلّ أغلى ما يجنيه الإنسان من مُسلسل حياته هو حب النَّاس. فبرغم عثرات وتقلبات الزمان، لا يصدأ ولا يتغيّر، بل يشعّ بريقه ليالينا، ويُوطّد بقيمته علاقاتنا، ويقويّ بآثاره مجتمعاتنا. فمحبة الناس علامة محبة الله. أَبعد تلك المكانة مكانة؟! وكما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إنَّ الله يحب فلانًا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السّماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السّماء، ثم يوضع له القبول في الأرض" (أخرجه مسلم). فالقبول في الأرض: هي المحبة في قلوب من يعرفه من المؤمنين، ويبقى له ذكر صالح وثناء حسن.

كثيرةٌ هي المواقف التي اختبرت لنا صدق ومحبة النَّاس، نقاءً وصفاءً. إذ يتولّد ذلك الشّعور الرائع في قلوبنا، ويتمكن من وجداننا بأفعالهم وحلو محيّاهم، فلا يُقابل الودّ ونقاء السريرة بالجفاء وجفوة اللقاء. فصفاء النيّات قولًا وسلوكًا يُصافح الروح قبل اليّد أحيانًا. فما أجملها من تفاعلات، وما أروعها من مواثيق، فتستقيم الحياة وتعتدل الموازين. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" (أخرجه البخاري).

إنّ نجاح علاقتنا بالآخرين: أفراد العائلة، الأصدقاء، وزملاء المهنة، يعتمدُ بشكل كبير على حسن المُعاملة، صدق الاتصال، والتفاعل الإيجابي. فسعّي الفرد لجني محبة من حوله بما يتحلّى من صفات جليلة، يمكن إبرازها عبر صور وتعابير حياتية يومية. فذلك أَجدر، وأوقع أثرًا ونفعًا من التسويف حتى حين مُغادرته موقعه تكبرًا وغرورًا. وبالمُقابل هناك من أروع النماذج، وأجلّها دروسًا من ردود فعل إيجابية، وذكر محاسن إنسانية لشخصيات بعينها، وهي تغادر عالمنا المؤقت إلى عالم الخلود، مودعة بهدوء وأمان. فما أروعه من شعور برغم غصة المُغادرة، وفجاءة التوديع.

ومن خلال المقال الحالي، نورد عددًا من القيم لنيل محبة الناس وجلب الأُلفة، وتخليدًا لذكريات عطرة، وتكوينًا لمجتمعات متحابة:

  • التّواضع:  التّواضع من الأخلاق الحميدة؛ لما له من أثرٍ عظيمٍ على من يتَّسم به. فتّعامل الإنسان مع غيره بتواضع جم، يكسب ودهم وحبهم، فيبادرونه أريحية التواصل وصدق المشاعر، خلافًا للاغترار بالنفس، الذي يُنَفّر الناس ويصبح تواصلهم ثقيلًا. فما أجمل أنْ يكون المرء متواضعًا قولًا وعملًا. وكما قال الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}. (سورة الإسراء، الآية: 37)
  • الصّدق:  الصّدق من أروع الفضائل التي تُبنى عليها العلاقات البشرية. فمتى كان الإنسان صادقًا واضحًا في علاقاته، نال حب وثقة الناس من حوله. في حين يتجنب الناس الشخص الكاذب؛ كونه مُبالِغًا في حديثه، مُغالٍ في أسلوبه. لقوله عليه الصلاة والسلام: "إنَّ الصِّدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنَّة، وإنَّ الرَّجل ليصدق حتَّى يكون صدِّيقاً" )أخرجه البخاري).
  • الاحترام والتقدير: يقول المثل "عامل الآخرين كما تُحب أنْ تُعامل". إذ كلما بادر الفرد بتقدير الآخرين وإظهار الاحترام لهم، كان الشكر والامتنان من جهتهم. فاستصغار الناس، ليس عزة نفس، ولا تقديرًا للذات، بل ضعف ووهن. فالمسلم يتجنب تسفيه الآخرين أو الاستهزاء بهم، والدين المعاملة.
  • الثّقة:  تُبنى العلاقات بين الناس على أساس الثّقة وحسن الظّن. فإنْ زُعزعت الثقة، تسلّل الخلل إلى الروابط والتعاملات. فالثّقة ترتبط ارتباطًا لصيقًا بالصّدق والاحترام. فينبغي أنْ يكون الفرد صادقًا مع نفسه ومع الآخرين، وأنْ يدرك أنّ احترامه لهم احترم لذاته؛ لكسب ثقتهم ومودتهم، مع التّنبه بألا تكون الثّقة في الآخرين ثقة عمياء.
  • الحب والاهتمام بالآخرين: يمكننا تقوية علاقتنا بالآخرين، بمشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، والتعبير عن مشاعرنا الإيجابية تجاههم. وأبسط أساليب التعبير عن الاهتمام: إفشاء السلام وحسن التواصل، بحلو المبْسم، وعذب الكلام. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أولا أدلكم عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ" (أخرجه مسلم).  يحثنا في هذا الحديث على إفشاء السّلام بيننا؛ لما فيه من أسباب التآلف والمودة، وسبيل إظهار الاهتمام والتواضع لمن نعرف أو لا نعرف.  

ختامًا.. محبة النَّاس حصيلة محبة الخالق، فكم من مواقفٍ كانت لمحبتهم بصمة، ودلائل عشرة طيبة، وذكرى لسيرةٍ حسنة. فالمرء بالأخلاق يَسْمُو، والنّفس بالأخلاق تَسْتَقِمُ، ولتكن سيرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم العطرة أسوة حسنة. فما أعظمه من ألم، وما أصعبه من أثر رفيقا لمرارة الفقد، خاصة حين يأتي بغتة،  أو تتلقى الخبر صدفة، فرفقاً بأرواحكم، وكفى بالموت واعظًا.

تعليق عبر الفيس بوك