الأيادي البيضاء

 

عبدالله الفارسي

كما قلت لكم ذات مقال إن الله يرزق كل وطن نصيبه من الكرماء الأسخياء وأصحاب الأيادي البيضاء. وأيضاً يبتليه بالبخلاء التعساء واللصوص وأصحاب الأصابع القبيحة السوداء.

غالباً الصنف الرديء ذو الأصابع القبيحة السوداء هو الغالب في معظم المجتمعات العربية والإسلامية البائسة؛ لأنها مجتمعات لا تتعامل مع خالقها باحترام وتبجيل حقيقي (ما قدروا الله حق قدره)، لذلك يتناسل ويتكاثر فيها ذلك الصنف الرديء بسرعة وبكثرة. لكن عموما في كل مجتمع هناك صنف مميز، صنف أبيض، صنف مرتفع صنف مُتسامق، صنف متألق، فإذا أحب الله مجتمعًا ما زاد فيه نسبة أصحاب القلوب البيضاء والأيادي اللينة الرقيقة الرهفاء.. وإذا سخط الله على مجتمعٍ ما وغضب عليه زاده من نسبة التماسيح والقوارض من أصحاب الأسنان الصفراء والأصابع السوداء.

لذلك الصنف الطاهر الأبيض يكون نادراً جداً. لكنه موجود لسببين؛ أولاً: حتى لا نفقد الأمل في انطفاء النور وموت الخير نهائياً.. وثانياً: لأجل إحداث التوازن الطبيعي بين القبح والجمال، والخير والشر في هذا الكوكب التعيس.

حتى في عالم الحيوان هناك أصناف مُميزة من الحيوانات، هناك حيوانات رفيعة وحيوانات دنيئة. وأيضًا عالم النبات والزهور فيه أصناف مميزة من الأشجار والأزهار والورود.

كذلك عالم البشر أيضاً يزخر بأصناف نادرة فريدة من البشر؛ أصناف متميزة غير عادية، ورائعة مفعمة بالروعة، فوّاحة بالعطر والأريج، مشحونة بالنبل والكرم والسخاء والرفيع.

لا أتذكر تحديدًا متى قرأت هذا الخبر، فلم تعد ذاكرتي بتلك القوة التي كانت عليه قبل سنوات، لقد امتلأت الذاكرة بالتراب والحصى والقذى، لقد اندثرت ذاكرتي بسبب المهازل التي نسمعها والتفاهات التي نعايشها والقصص التي نتغصص بها؛ فالذاكرة كالطير، حين تعيش في أجواء متسخة مدخنة ملوثة تتلوث ألوانها، وتتسخ أجسادها وتموت أعضاؤها.. الذاكرة جزء من الجسد تضيء بالشكر وترتقي بالعرفان، كما إنها تندثر بالإهمال، وتنطفىء بالعبث والفوضى بالنسيان.

الذاكرة تحتاج إلى عالم جميل، باذخ بالنور، معبأ بالضحكات، مزروع بالزهر مكسو بالورود.. الذاكرة تموت بالأوجاع، وتتضعضع بالكسور، وتندثر بالأسقام..

لقد قرأت هذا الخبر منذ سنوات في إحدى مدن السعودية إذا لم تخنِ الذاكرة خيانة عظيمة.

يقول الخبر: يومًا ما دخل رجل مهيب بهي الطلعة مضيء الجبهة، محكمة المدينة الكبيرة المكتظة بالبشر، المُكدسة بالقيود والسلاسل والملفات والقضايا.. دخل على قاضي الأحكام والتنفيذ، فقرع الباب برفق، فسمح له القاضي بالدخول، ثم جلس الرجل، وطلب من القاضي كشفًا بأسماء كل المُتهمين المطلوبين بمبالغ مالية (تحت 50 ألف ريال سعودي وما دونها) المحكوم عليهم/ وأولئك الذين في قفص الاتهام وينتظرون الأحكام!

فدُهش القاضي من طلب الرجل وسأله: لماذا؟ فقال الرجل: أُريد أن أسدد عن هؤلاء النَّاس دينهم. أريد أن أفك عسرتهم. أتمنى أن أفرج همهم. أتمنى أن أمنحهم فرصة للبدء من جديد. أريد أن يعلموا بأنَّ الدنيا مازالت بخير. أحب أن أزرع بهجة في صدورهم وأغرس ضحكة في أفواه أطفالهم. أريد أن أؤكد لهم أنَّ القلوب مازالت تنبض بالرحمة. وأن الأفئدة ما زالت تستنشق الحب والرأفة.

فذُهل القاضي من طلب الرجل؛ فهو لم يصادف موقفاً مماثلاً منذ توظيفه، ولم يستمع لهذه النوع من الموسيقى السماوية منذ تاريخ ميلاده. فأي رجل هذا؟ يطلب كشفاً كاملاً لكل المحكومين والمطلوبين بمبالغ مالية تبدأ من 50 ألفاً وما دون؟ وكم سيكون العدد؟ وكيف سيكون شكل المبلغ وحجمه؟

يا إلهي.. ماذا أسمع؟!

طلب قاضي التنفيذ منسقه الأول. وأمره بطباعة كشف بأسماء كل المطلوبين بمبالغ مالية من 50 ألفاً وما دون المسجونين منهم والذين في قائمة الأحكام، وكان العدد يتجاوز مائتي شخص. وكان إجمالي المبلغ يتجاوز 4 ملايين ريال سعودي.

أخرج الرجل دفتر شيكاته بكل ثقة واطمئنان، وخطَّ المبلغ بكل هدوء وجمال، وهو في راحة تامة وسكينة عجيبة. أصابع يديه لم تكن تنتفض هلعًا؛ بل كانت تلمع بياضاً كأنها أصابع الملائكة.

وبسمته تتلألأ في شفتيه ككوكب دري جميل ونادر. قطع ورقة الشيك من دفتره، وسلمه للقاضي، ونهض بكل هيبة وشموخ وجمال وجلال، وقبل أن يتحرك، وفي لحظة ذهول قاضي التنفيذ بمنظر الشيك الذي كان يرتعش في يده، قال الرجل للقاضي: لي رجاء وحيد.. أرجوك لا تذكر اسمي أبدًا لأي كان.. قل "فاعل خير فقط".. واختفى في لمح البصر؛ كشهاب عبر صفحة السماء في غفلة من العيون.

كم عدد النَّاس الذين قست عليهم الحياة فسقطوا في قبور الديون ووقعوا في طائلة الاحتياج وشباك القروض المظلمة؟ كم من الناس خلف القضبان بسبب شيكات غير مسددة وقروض بسيطة مُتعثرة؟

وفي المقابل كم عدد أصحاب الملايين لدينا؟ وكم حجم ثرواتهم وكم وزن خزائنهم؟!

ألا يستحق هؤلاء البشر المساكين التعساء رجلاً كذلك الرجل يحمل أصابع من السماء، وقلبًا من الفضاء وروحاً من النور والضياء؟ يقضي عنهم دينهم ويفرج كربتهم ويجمع بينهم وبين أطفالهم، ويزرع سعادة في صدورهم ويوقف دموع أمهاتهم؟!!

ألا يستحق هؤلاء الفقراء التعساء أيادٍ بيضاء تضيء حياتهم وتمنحهم أملاً ورغبة وسعادة؟

أيها المليونيرات أطلقوا سراح أموالكم من سجونها، واكسروا أقفال خزائنكم، فبالبلد يمتلئ بالفقراء والغارمين والسجناء والمعسرين والمسرحين.... انثروا أموالكم في هذه الأرض لتنبت خيرًا وحبًا ونورًا وضياءً في هذا الوطن.

اللهم أيقظ قلوب أغنيائنا، وأشعل الشفقة والرحمة في أرواح أثريائنا ومليونيراتنا.