شهامة نادرة

 

عبدالله الفارسي

 

أكتبُ هذا المقال لأجل أخ عزيز إنِّه هدية غالية وثمينة من هدايا الحياة الشحيحة.

(أخي الأحب الأعز أحمد: لا أملك أي شيء لأرد لك جميلك العظيم وصنيعك النبيل وشهامتك النادرة سوى كتابة هذه السطور الصادقة المرتعشة لأجلك).

 

 

أعتقد أنَّ من أعظم منح الحياة وهداياها المبهجة للإنسان هو أن تجمعك بإنسان رائع، أن تجعلك تصطدم بإنسان نبيل وشهم.

الحياة ليست كريمة دائماً لتمنحنا هدية بهذا الحجم، كنت دائماً ساخطاً من الحياة ناقماً عليها وما زلت. فلم أحظى بشيء من بذخها ولم أنل سوى النزر اليسير من سخائها، ولكن فجأة وأنا في العقد الخامس من عمري هاهي الحياة تخفي لي مفاجأة من العيار الجميل، من الصنف الأبيض. فاجأتني بضحكة جميلة وهدية ثمينة. وهذا ليس من عادتها معي مطلقاً. ولكنها خيبت ظني فيها وفعلتها وقالت لي: أيها الساخط عليَّ الناقم مني هآنذا أمنحك هدية جميلة احتفظت بها لك طوال سنواتك الخمسين الماضية العجاف،. إنها هدية مشوارك الطويل الشائك وحياتك المثيرة للسخرية والغرابة!!

إنها ليست مالاً ولا عقاراً كتلك التي يتكالب عليها الناس إنها شيء أغلى من الذهب الثمين وأكبر من المال والعقار، إنها أخ وقف بجانبي وسندني ولطَّف أحزاني وخفف أوجاعي. هذا الإنسان لم يكن اسمه مكتوباً في هاتفي إلا حديثاً، ولم تكن صورته منقوشة في بروفايل محيطي الاجتماعي الزائف.

إنه رجل تواصل معي ذات مساء بعيد منذ أشهر عديدة، تواصل معي من السماء، قال لي: أخي عبدالله أنا حالياً في الطائرة وأمامي قصتك الغريبة "حين تنكسر البهجة" إنها قصة رائعة ابكتني بغزارة وادمعتني بكثافة، وإنني معجب بنكهتها متيم برائحتها.

ومنذ تلك المكالمة القصيرة بدأت أواصر الأخوة تتوثق بيننا. أخذنا نتبادلنا الرسائل وتناقلنا المشاعر وتناقشنا في النصوص والمقالات وتحدثنا عن القيود والمعوقات. لكن كل ذلك لم يكن كافياً لأكتب له هذه الكلمات.. فذات نهار من نهارات الصيف الماضي المقرفة تمَّ القبض عليَّ متلبساً بنشر مقال في الواتساب فتم استدعائي ووضعت الأغلال في يدي وتمَّ اقتيادي إلى زنزانة سجن ضيق خانق، فظهر هذا الرجل فجأة بوضوح وسطوع، فحاول كل جهده مؤازرتي وحمايتي.

لقد أدهشني موقفه وغضبه وردة فعله الصادقة حين وصله خبر اعتقالي، نعم فعلاً أدهشني فحين تعيش وسط مجتمع يؤمن درجة التقديس بالمثل الخسيس القائل (إذا سلمت ناقتي ما علي من رفاقتي) ثم يأتي شخص من خلف الجميع ليمد لك يد المساعدة أو يسندك ويحاول جاهدًا مساعدتك، فالدهشة تكون حتمية والتعجب يصبح فرض عين.

لكن هذا الرجل كان مختلفاً، كان لا يؤمن بتلك المقولة الخسيسة (إذا سلمت ناقتي ما علي من رفاقتي)، لم أصدق ما فعله لأجلي، فهو بالنسبة لي كان مجرد مُتابع لكتاباتي ومعجب بمقالاتي وما أكثر المعجبين الصامتين المُتفرجين حين تعدهم، ولكنهم في النائبات قليل.

هذا الرجل أثبت لي شيئا آخر تمامًا، أثبت لي أنَّ الإعجاب ليس مجرد كلام ورسائل واتساب و"إموجيات" ورسوم ضاحكة وقلوب حمراء ملونة، لقد برهن لي أن الإعجاب الحقيقي هو في المؤازرة النفسية والمساندة المعنوية وفي الوقفة الرجولية الواجبة في دقائق الشدة وفي لحظات العسرة.

وحين تخيلت الصورة بكل أبعادها لم استوعب موقفه ولم أفهم عظمته. فكل الذي كان يربطني به لم يكن كافياً أو مبررا ليقف معي تلك الوقفة الرجولية النادرة.

أصدقائي ومعارفي ورفقة عملي الطويل وأقاربي ومجموعة الجروبات الواتسابية السخيفة جروبات المنافقين المحيطين بي، كلهم تخلوا عني، ولم أتلقَ منهم حتى اتصالا أو اطمئنانا، ولم يكلفوا أنفسهم أن يرسلوا لي مجرد قلقهم أو يبعثوا لي تعاطفهم عبر هواتفهم اللعينة.

جبن وخذلان غير طبيعي كنت أعرفه حق المعرفة وكنت أتوقعه تماماً من تلك العلاقات الكاذبة التي تربطنا، لكن الذي أدهشني ولم أكن أتوقعه هو وقوف هذا الرجل معي بتلك الشهامة الباهرة الباذخة الكثيفة؛ فالذي وقف معي في محنتي عدد قليل جداً جدًا لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة وكان هذا الرجل الشهم هو بمثابة الإبهام وزعيم تلك الأصابع.

كنت في السجن معزولاً عن الناس ممنوعاً من الاتصال والتواصل مع أسرتي فكان هذا الرجل النبيل يتواصل بكل من يعرفه من معارفه في مسقط ومعارفه في الادعاء العام ومعارفه في مدينتي ومعارفه في جهاز الشرطة ولم يتردد حتى في التواصل مع ناس لا يعرفهم ولا يعرفونه لأجل مُساعدتي.

ولأنه من ولاية عبري ويُقيم في مسقط، فكان يتواصل هاتفياً مع ابني باستمرار موجهاً ومرشدًا له: افعل كذا اكتب كذا واذهب إلى فلان، ويطمئنه بأن القضية بسيطة وستنتهي بسرعة وأن والدك سيخرج من السجن في ظرف ساعات.

كان الوحيد الذي تدخل للسماح لابني بزيارتي خلف القضبان ولولاه لما تمكن ابني من رؤيتي طوال أسبوع قضيته في السجن.

أسبوع كامل كنت نائماً في السجن، وهذا الرجل الرائع كان لا ينام، هاتفه لم يتوقف ساعة واحدة، اتصالات متواصلة يبحث لي عن مخرج ويجتهد ليجد لي منفذًا لإطلاق سراحي من السجن.

لقد فعل ما لم يفعله من كنت أحسبهم أحبتي وأصنفهم أعز أصدقائي واعتبرهم صحبتي ورفقاء دربي .

وأثناء فترة المحاكمة وطوال خمس جلسات كان يتابع كل جلساتي ويتواصل معي بعد كل جلسة ويطمئن على سير الجلسة وما حدث فيها.

بينما أصدقائي وعشرة عمري ومعارفي الذين تملأ أسماؤهم ذاكرة هاتفي لم يحضر واحد منهم جلسة واحدة من جلسات المحاكمة العديدة، لقد أثبتوا وبرهنوا لي بأنهم من فئة (إذا سلمت ناقتي ما علي من رفاقتي).

لقد أثبتت لي هذه التجربة مدى زيف العلاقات الأسرية وكذب الصداقات ومدى هشاشتها ورعونتها وضحالتها. لقد خذلني الجميع وكدت على وشك أن اهشم ثقتي بالمبادئ النبيلة التي أؤمن بها، كما هشم الهنود الهندوس أصنامهم حين دعوها أن تشفي أقاربهم من كورونا، كنت قاب قوسين أو أدنى من أن أكسر أصنام القيم الرفيعة التي أعبدها كما كسر الوثنيون أوثانهم حين توسلوا لها بأن تنقذ أقاربهم من كوفيد-19 فلم تكترث لدعائهم، حتى ظهر هذا الرجل الشهم فجأة وأعاد لي الثقة في الصداقة والمرؤة والشهامة وأن الصحاري لم تنعدم من الواحات والبحار لا تخلو أبداً من الدلافين.

لقد أنضجتني تجربة السجن وصفعتني على وجهي قائلة لي: يكفي سذاجة، العالم أخبث وأردى مما تتخيل!

هناك أشياء قليلة جداً ونادرة في الحياة تستحق البقاء لأجلها وبقربها والعيش لأجلها.

لقد سطر هذا الرجل الغريب البعيد رجولة ونخوة وشهامة لم يسطرها رفقاء عمري القرباء وأصدقائي اللصقاء طوال ثلاثين عاماً.

مثل هذا الإنسان هو الرهان الوحيد لوجود الشهامة النادرة، فحين يتخلى عنك من كنت تعتقد أنهم السند والجدار والأمان والحليف يصفعك السؤال القاتم: هل أعلنها موتة خاتمة لكل القيم الجميلة التي أؤمن بها؟ هل اعترف بأنني أنا الأحمق الوحيد في هذه اللعبة؟ أم أتمسك بجرعة الأمل وأن الحياة مازالت تحمل على ظهرها ذاك الصنف الشهم الأصيل؟ ذلك المتمسك بجمرة الشهامة في زمن انحسرت فيه كل الشهامات والمبادئ والأخلاق الجميلة.

حين تنبت الحياة رجالاً بهذا الجمال وبهذا الوفاء تصبح الحياة جديرة بالحياة مستحقة أن تعاش.

أمثال هؤلاء البشر هم من يمنحون الحياة نكهة وطعمًا ورائحة ومتعة ولذة.

حين تزهر الأرض هذه النوعية من الأزهار وهذا الصنف من الورود تضحى الدنيا مكانا فاتنا عذبا ولذيذا.

وحين أخبرته بأنني سأكتب بعض السطور عن موقفه النبيل معي، قال لي: أرجوك كل الرجاء لا تذكر اسمي بين سطورك.

وأختم مقالتي بمقولة رائعة للكاتب الأرجنتيني خوريا كورتاثار الذي قال:

هناك حقيقتان ستكتشفهما عاجلا أم آجلا: أولا: إن أكبر أعدائك هو المجتمع البشري الذي يحيط بك وتحيط به، ثانيا: إن النبل والشهامة صفات وراثية لا تكتسب أبداً.

تحياتي وابتهالاتي لكل المخلصين الأوفياء، وتعساً لكل الزائفين المنافقين.