أثر الآيديولوجيا في كتابة التاريخ!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"إن محكمة التاريخ تحكم بالإعدام على أولئك الأفراد والشعوب الذين يملكون من الحقائق أكثر مما يملكون من الوقائع، وأولئك الذين يملكون من العدالة أكثر مما يملكون من القوة". مصطفى السباعي

---------

أتساءل أحيانًا عن تأثير الآيديولوجيا على أمانة النقل عند المؤرخ أو الباحث التاريخي، وتوابع هذه المزاجات الشخصية كما اعتبرها على المهنية في الكتابة والتأريخ، أعلم يقيناً أن معشر البشر وليس المؤرخين فقط ليسوا ملائكة ولا منزهين عن أية رغبة شخصية قد يمتد تأثيرها لتتبوأ مكاناً بين سطور الكتابة التاريخية!

هناك من يخلط بين الرأي والخبر، أنت لك رأي لا مشكلة في ذلك ونأخذ ونعطي معك، وتعال لنتحاور، لكن الخبر لاعلاقة له برأيك أو الآيديولوجية؛ إذ ليس مقبولاً خلط الرأي بالخبر التاريخي، هنا يجب تدخل مشرط الجراح البحثي ليستأصل أية معلومة فيها "إنَّ"!

تخيل معي الخبر التالي: شب حريق ضخم في مدينة (كذا) يوم (كذا) بسبب تماس كهربائي.. انتهى الخبر.

كيف ستكون صياغة الخبر وتأريخه:

أولاً: مؤرخ محسوب على أهل الحريق: شبَّ حريق في أحد المنازل بمنطقة كذا، وقد تبين بعد التحري أن سبب الحريق هو تماس كهربائي، وقد نجم عن الحادث إصابات بسيطة، وخسائر بسيطة، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ولا يبتلى إلا المؤمن.

ثانياً: مؤرخ على خلاف مع أهل الحريق: اشتعلت النيران في أحد المنازل بمنطقة كذا، وتواترت معلومات بأنَّ وراء الحريق أسبابًا غامضة، ويعكف المحققون على التحري عنها، وقد نجم عن الحريق إصابات وخسائر.

ثالثا: مؤرخ محايد: وقع حادث حريق في أحد المنازل بمنطقة كذا، وتم التعامل مع الحريق من قبل الجهات المعنية، وقد تم رفع تقرير بالحادث لتحديد أسبابه وتم إسعاف المصابين، وجارٍ إحصاء الخسائر.

بالطبع من سيكتب أعلاه هو كاتب خبر صحفي؛ سواء الإعلام المرئي أو المقروء أو المسموع، وهو بكتابته للخبر إنما يقوم بتأريخ لخبر ليكون مرجعًا في المستقبل في حال تمت الحاجة لذلك، ولك أن تتصور كيف تمت صياغة الخبر، وبأن إحدى الصياغات هي فقط التي أصبحت متاحة بعد سنوات، هل تعتقد أن الصياغة ستؤثر على الباحث الراجع للمرجع؟ منطقياً.. نعم!

بناءً على ما سبق لك أن تتصور آلاف، بل ملايين، الصفحات التي دونت حوادث القرون والعقود والسنين الماضية، لا أريد إدخال الشك السلبي الذي يكذب المعلومة، إنما أفترض على أي باحث أن يشغل خاصية التفكير النقدي في عقله حتى يميز ويفرز ويفكك المعلومة التاريخية، لأنَّ الفهم الصحيح للمعلومة هو ما سيقود إلى الوصول إلى تحديد نسبة كبيرة من صحتها أوعدم الصحة.

استرعت انتباهي مقولة لماجد عرسان الكيلاني: "إنَّ الفلسفة التاريخية تقوم على مبدأ هام.. وهو أن كل مجتمع يتكون من ثلاث مكونات: الأفكار، والأشخاص، والأشياء.. وأن المجتمع يكون في أوج صحته وعافيته حين يدور الأشخاص والأشياء في فلك الأفكار الصائبة… ولكن المرض يصيب المجتمع حين تدور الأفكار والأشياء في فلك الأشخاص، وينتهي المجتمع إلى حالة الوفاة حين يدور الأفكار والأشخاص في فلك الأشياء"(1)، والمعنى واضح في كلام الكيلاني، وإن كان يحتاج تفكيرا لفهم ماهية الفكرة.

التاريخ ليس ملكًا لأحد، فإن امتلكت التاريخ لسبب معين في وقت ما، فسيأتي الوقت اللاحق الذي يدحض تاريخك ويبدله بتاريخ آخر منقح ومحذوف منه ومليء بالإضافات. أقتنعُ بأن التاريخ يكتبه المنتصرون، ما دامت أنفاسهم، لكن عندما يموت الملك تهتف الناس ليعيش ملك آخر، ويبدأ فتح التاريخ الماضي ليكون سطورا بمقدمة الصفحات الأولى لكتاب التاريخ الحاضر!

هذا ديدن الحياة وتقاليدها وعاداتها، لكن تأبى الحقيقة إلا أن تظهر، مهما تدخلت العنصرية والآيديولوجيات، ما دام البشر أحياء، فلن يموت صراع الخير والشر والغالب والمغلوب!