إلى وتيني

سعيدة البرعمية

بصمت مُبرّر يرتدي الوقار، قالت إحداهن عُذرا، لم أكن أعني أن أزيح ذلك الثبات الذي تتكئين عليه، أقدّر جيدا قسوة سطوتي عليك؛ ولكن نحن الأيام نتسربل البياض والسواد معا.

لقد رأيتكِ يومها تائهة بين الملأ، تسردين مناقبه بلا مفردات وبلا صوت؛ فهي أكبر من أن تتشكل على هيئة حروف ومفردات أو أصوات، أعلم أنني انتشلتُ من قلبك فرحة العيد؛ فأتى العيد دونها. أعلم أنّني بعثرتُ وتينك، أعلم أنّ ذلك الصباح لم يشرق نوره، وعلى نعش مسائه كان السكون نزيلا. أعلم أنّ البحث عنه في وجوه الخَلّق قد أتعبك؛ فأمثال والدك لم يُخلَق لهم أشباه. نعم لم يُخلق له أشباه، كانت هيبته تملأ المكان، ولطفه يتسع للجميع، لم تكن لديه مؤهلات دراسية أو جامعية؛ ولكن حظي بمؤهلات الشجاعة والرجولة والأُبوة والرحمة.. لم يكن غنيّ المال؛ بل كان غنيّ النفس. كان يحظى بالصِيت والمكانة الرفيعة بين أهله وقبيلته ومحافظته، كان معروفًا لدى الجميع بأفعاله وخصاله ولم يكن نكرة. كان من حبّ الناس له واعتدادهم به أن بعضهم من سمّى على اسمه مواليدهم، تيمنًا بشجاعته وخصاله النبيلة.

كيف أقبلُ الاعتذار وقد كانت الشمس، تستمد طاقتها من عزم أبي؛ فيعكسه بدوره على عزمي؟ لقد خطف الثالث والعشرون من رمضان، كتف الثبات الذي يُمسك الأشياء حولي، بعد رحيله مالت جميعها، ثم يعتذر كلّ عام. يعتذر؛ فيجلب الأسى ويُكْثِرُ أحاديث الغروب، وتشتدّ ظلمة المساء فينشد أنشودة الغياب، فترحل النجوم دون أن تعود.

في ذلك الصباح، الذي يرتدي عباءة المساء، رحل أبي، فسلب رحيله وتيني.  لم تثكله أمه، ولكن فقدته الأُمّة التي تسكنني وهو يتزعمها، فعندما يرحل العظماء ليس مُهِما أنّ تخلّدهم جميعهم صفحات التاريخ؛ فهناك دائما من يتذكرهم، وإن لم يكن هناك من يتذكرهم؛ ففي قلوب بناتهم طاب مسكنهم.

حال اللّحد بيني وبينه؛ فالسماء بعيدة وبعده أبعد، والأمواج عاتية والموج الذي يحول بيننا أعتى، له وحده كلّ لهفة، وإن طال الدرب دونه.

هناك من يُعظّمون آبائهم فيقولون عنهم ما ليس فيهم، ويمدحونهم؛ بالرغم من أنّ المديح والثناء ينكرهم، أنا لا أبالغ، إنما هي عاصفة الثالث والعشرين من رمضان، التي عصفت ببعض مناقبه في ذهني، مناقبه التي يعلمها كلّ من عرفه وسمع عنها من لا يعرفه. 

ظفار في عهدها الجريح، حظيت بالكثير من الشخصيات العظيمة، التي كان لها دور ومواقف، وأثر ومآثر، لم يكتب أحد عن سيرهم الذاتية؛ لكنّها بقيت في ذهن من يتذكر.            

تعليق عبر الفيس بوك