أفكار حول مؤسسات الحماية الاجتماعية

 

د. محمد بن سعيد الحجري

في مراحل الأزمات التي يضيق فيها الحال وتتراجع فرص الرخاء يكون التأثير أشد ضراوة وأثراً على الفئات الأكثر ضعفاً ودخلاً في المُجتمع، حيث تتسع هذه الفئة بسبب انكماش الاقتصاد، والتسريح من الأعمال وتقليص الدخول، وكذا الآليات التي تلجأ إليها الدول لاستعادة التوازن المالي، إلى غير ذلك من الأسباب، وخلال الأشهر الماضية تكاثف الحديث عن نظام الحماية الاجتماعية لهذه الفئات وبرز على وجه الخصوص أحد مُفرداته ضمن خطة التوازن المالي ممثلة في مراعاة هذه الفئة عن تعديل تعرفة الكهرباء والماء، إضافة إلى وجود أنظمة الضمان الاجتماعي وصندوق الأمان الوظيفي وبعض الإعفاءات من الرسوم هنا وهناك.

إنَّ الغاية الأساس من منظومة الحماية الاجتماعية هي إعادة توزيع جزء من ثروات المجتمع على الفئات الأكثر احتياجاً والأقل قدرة، وبقدر نجاح المجتمع في إعادة التوزيع هذه يتوفر الأمان الاجتماعي، وفي تقديري أنَّ التركيز ينبغي أن يكون في أقصى حالاته على هذه الفئة التي تتوسع الآن ولا تضيق، وهي حقيقة يجب أن نواجهها بوضوح وجرأة حتى نعبر هذه المرحلة بسلام، فالحفاظ على الأمان الاجتماعي هو مسؤولية الدولة نعم ولكننا جميعاً يمكن أن نسهم بطرف فيه. وهنا- عدا عن مفردات منظومة الأمان الاجتماعي القائمة فعلياً- أدعو إلى النظر في تنشيط آليات أخرى تكمن قوتها في اتساعها ومرونتها وقدرتها على خدمة أطياف أوسع من المجتمع، خاصة أؤلئك الذين لا تنطبق عليهم معايير الحد الأدني للدخل التي تطبق الآن، وأقول تنشيط لأن بعضها قائم فعلاً لكنه يحتاج إلى توسيع وتطوير وشمول.

•     الفرق الخيرية بالولايات؛ وهي عادة فرق خيرية تطوعية تعمل تحت مظلة لجان التنمية الاجتماعية، وقد قدمت بعض هذه الفرق تجربة ناجحة في خدمة الفئات المحتاجة في الأوقات العادية أو في أوقات الأزمات (الأنواء المناخية – وجائحة كورونا مثلاً) بل إنَّ بعض هذه الفرق تشكل قصص نجاح حقيقية فاعلة ومؤثرة، رعت بجدارة مصالح المُجتمع وشكلت مع الأطر الرسمية تكاملاً في الأدوار والمهام، وقد حان الوقت لدعم أوسع لهذا المسار الذي يمثل قاطرة للعمل الخيري في البلاد.

•     لجان الزكاة؛ وهي منظومة من اللجان الأهلية الخالصة تبلغ 62 لجنة تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وقد توسعت جغرافياً خلال السنوات الأربع الماضية منذ إعلان نظامها، كما توسعت نجاحاتها في خدمة الفئات المحتاجة، وانتقل العمل بها من الأطوار التقليدية إلى نماذج مُتقدمة من الأتمتة والتنظيم والمحاسبية، وقد نجحت منظومة الزكاة في تقديم مساعدات بلغت قرابة 6.5 مليون ريال خلال عام 2020م، ولا شك أنه رقم دون الطموح بكثير، لكن من المؤكد أن مبالغ الزكاة التي تصرف هي أكثر من ذلك بكثير ولكنها لا تدخل في حسابات هذه المنظومة ولا في نظامها، لأنها تقدم خارجها، ومن هنا يأتي دور التنشيط والترويج لها في هذه المرحلة سواء من الناحية الدينية أو من ناحية الإقناع بالانضمام لهذه المنظومة.

•     المؤسسات الوقفية العامة والخاصة؛ وهي مؤسسات أهلية ينظمها قانون الأوقاف ولائحته التنظيمية، ولديها بنية متكاملة من أنظمة التصريح والإشهار والإدارة والحوكمة وتنظيم الاستثمار، ومع أن هذه المؤسسات موجهة في الأصل لخدمة مصالح المجتمع المختلفة، إلا أنها يمكن أن تسهم كثيراً في دعم الفئات الأقل دخلاً من خلال الأوقاف التعليمية وأوقاف الإطعام وغيرها، كما يمكن التوسع في نوعية الأوقاف ليخصص بعضها للفئات المحتاجة للدعم كالمعسرين والمعاقين والأسر التي تفقد عائلها؛ هذا إضافة إلى أن نجاحها الاستثماري سينعكس على النشاط الاقتصادي للمجتمع ككل ولذلك آثاره الإيجابية البينة، ورغم أن هذه المنظومة مكتملة من حيث التنظيم والتقنين، إلا أنها تواجه تحديات جمَّة على أرض الواقع سواء في العدد المحدود منها العامل والمصرح به، أو في ضعف التسهيلات المُتعلقة بأنشطتها الاستثمارية لجهة الحصول على أراضٍ جديدة، أو التوثيق القانوني لأصولها بسبب بطء الإجراءات وتعقيدها، هذا مع وجود ضوابط شرعية في الأساس الديني المبنية عليه تؤطر عملها ولا يمكنها تجاوزها؛ وفي ما يتصل بهذه النقطة أرى أنَّه حان الوقت لتقديم مجموعة من الحوافز والدعم والتسهيلات لأعمال هذه المؤسسات لتكون شريكة حقيقية في منظومة الحماية الاجتماعية.

•     المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات وشركات القطاع الخاص؛ ففي حين نظمت كثير من القوانين هذا الأمر باعتباره حقاً- وليست صدقة أو إحساناً- للمجتمع وللدولة في أرباح الشركات أو في إيرادها (حسب الأنشطة الاقتصادية) نتيجة لاستغلال الموارد الوطنية الخام واستخدام مرافق البنية الأساسية، لكن يسود لدى أغلب مؤسسات القطاع الخاص أنَّ ذلك مجرد نوع من الإحسان والتصدق، أو يذهب بعض الشركات إلى التملص من أداء هذا الحق بأساليب ملتوية تشمل التلاعب بالحسابات المالية أو حساب الكميات إلى غير ذلك من الأساليب، وإلى جانب ذلك يظهر عدد قليل من المؤسسات التزاماً حقيقياً تجاه المجتمع في ذلك، وهناك مؤسستان أو ثلاث تقدم قصص نجاح حقيقية فارقة في خدمة المجتمع في برامج معتمدة وواضحة للعلن، هذا إضافة إلى عدم وجود نظام واضح لصرف هذه الموارد على خدمة المجتمع عبر (لجان التنمية الاجتماعية، أو لجان الشؤون البلدية في الولايات)، وأعتقد جازماً أن تطوير منظمة المسؤولية الاجتماعية لمؤسسات القطاع الخاص وجعلها أكثر الزاماً بالنظام والقانون وأكثر وضوحاً في خدمة المجتمع من منطلق الواجب وليس الإحسان، وتوفير نظام لتوزيع حصيلتها على مصالح المجتمع والفئات الأكثر تضرراً سيجعل من هذه المنظومة ركناً أساسياً في دعم شبكة الأمان الاجتماعي.

هذه المنظومات الأربع التي أشرت إليها- إضافة للمتوفر- تحتاج منِّا اليوم إلى دعم وتنشيط وفي بعض الأحيان إلى إعادة بناء سريع لكي تقوم بدورها في هذه المرحلة، ويجب أن تتحرك كافة الجهات بسرعة لتنشيطها والتأكد من فاعليتها وقيامها بأدوارها وخدمتها للمجتمع، وأقول ذلك لأنَّ بعضها فاعل ومؤثر ويحتاج إلى توسيع بينما بعضها لا يزال ضعيفاً ويحتاج إلى تنشيط.

إن الجهات المعنية بهذه المنظومات واضحة وهي: وزارة التنمية الاجتماعية، ووزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وجهاز الضرائب (فيما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية للشركات)، وهناك وزارات أخرى يمكنها أن توفر البيئة الداعمة والمراقبة لهذه المنظومات من بينها وزارة الداخلية، وجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، ومجلسا الشورى والدولة، ووزارة الإسكان والتخطيط العمراني، ووزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار.

إنَّ نجاحنا في تجاوز هذه المرحلة رهن بقدرتنا على الحفاظ على الأمان الاجتماعي خاصة للفئات الأقل دخلاً، وبمدى سرعة كل هذه الجهات في استلام زمام المبادرة في دعم شبكة الأمان الاجتماعي بمنظوماتها المختلفة.

تعليق عبر الفيس بوك