قراءة في كتاب "نظام التفاهة" (4-4)

 

عبيدلي العبيدلي

ويستعرض دونو بأسلوب نقدي الحركات والأحزاب التي سعت لتحديد قالب مناسب للتنظيم الاجتماعي البشري، ويشخص الثغرات التي أدت إلى تداعيها ومنعها من الانتشار. ومن أهم هذه العلل الممارسات الفردية الرجعية، أو الابتعاد عن الهدف الجمعي الكفيل بتحقيق نظام مناسب للإنسانية ككل، أو محاولات طمس الملامح الثقافية والاجتماعية ذات الخصوصية الحضارية والتاريخية، أو الاستخدام البيروقراطي المقيت لأفكار إنسانية سامية. كما يأخذ على تيار الوسط المتطرف الإغراق في مركزيته التي أدت إلى نتائج عكسية. ويؤكد الكاتب نجاح اليسار في العمل على تحديد إطار يمكن للذات الجمعية التعاطي مع نفسها من خلاله بطريقة سيادية.

يُعدّ هذا الكتاب من أبرز الكتب التي صدرت في هذا العصر والمعنية بنقد النظام الرأسمالي. لكن المؤلف يغض النظر، إلى حد ما، عن الجوهر الفلسفي لهذا النظام القائم على تكريس الحرية، واحترام الفردانية وتكافؤ الفرص في إطار التنافس الحر. إن هذه القيم في حد ذاتها ليست مؤذية، فالأذى كله يعود للإنسان وليس للنظام نفسه.

وبالنسبة للتجارة وحركة الاقتصاد مثلاً، فالعملة، كما يراها دونو، تُعد مُنذ الأزل مجرد أداة للمقايضة، وتحويلها اليوم إلى إلكترونية لا يغير من مفهومها، كما يحاول البعض أن يروج، حين يضع ما أطلق عليه العملة الرقمية "بيتكوين" بديلا للعملة المستخدمة. فالتطور الإنساني ضرورة؛ لذلك ربما يجب العمل على ردم الهوّة التي يشير إليها الكاتب بين المواطن وسرعة تطور حركة الاقتصاد، والتأكيد على أهمية تعزيز دور برامج التثقيف التي أصبحت بسبب إهمالها، تقتات على كافة قطاعات الحياة الاجتماعية.

وكما يرى دونو فإن النظام الرأسمالي يؤكد أهمية الضرائب التي تعود بالنفع المتوخى منها. والمهم أن نتذكر أنها يجب ألا تكون عبئاً على الطبقة الوسطى بينما يُكدس الأغنياء الثروات بطريقة لا إنسانية! ولا ننسى نهب الشعوب الفقيرة في أفريقيا وغيرها وبطرق ملتوية، إذ تتحمل رؤوس الأموال مسؤولية تحسين الوضع المعيشي في هذه البلدان ومحاولة دفعها لاستثمار ثرواتها، وتأمين فرص العمل لمواطنيها بفضل خيرات بلادهم.

عند هذه النقطة يتوقف دونو مطولاً أمام تهرب الاحتكارات العابرة للقارات، من خلال النفاذ من الثغرات القانونية لنظام الضرائب كي تتحاشى قدر المستطاع تحمل دفع الضرائب المستحقة عليها. ويورد دونو أمثلة صارخة على تحيل تلك الشركات عبر هروبها إلى ما يعرف باسم بلدان الجنات الضريبية.

في سياق متصل، يتوقف دونو عند القضايا المتعلقة بالفن، ويذهب إلى القول بأننا قد وصلنا إلى مرحلة أصبح معها المجتمع بأكمله متعطشاً لفن حقيقي يلامس جوهر الوجود الإنساني، فلطالما كان الفن من أكثر الأدوات الإنسانية قدرة على الارتقاء بالمجتمع، ولهذا علينا دعم أشكال الفن الحقيقي كافة. ولم يسهب دونو كثيراً في تناوله للموضوعات الفنية لكنه ألمح في إشارات سريعة، لكنها أصابت كبد الحقيقة، عندما ربط بين حالة التوسط، وتردي الفن الأصيل الذي لم يتناوله الكاتب في الواقع. وهو موجود، لكنه سيبقى كما كان دائماً فعلاً نخبوياً.

يخصص المؤلف مساحة لا بأس بها من الكتاب لمعالجة موضوع التوسط في المنظومة التعليمية القائمة. وأعطى أمثلة حية كيف باتت الجامعات "سلعة" في يد الاحتكارات التي حولت العملية التعليمية برمتها إلى خدمة من بيئة معرفية إلى أخرى تجارية، حتى وصل الأمر إلى إغراق السوق، من وجهة نظر المؤلف، بقطعان من الخبراء ذوي التخصُّصات الضيِّقة الذين يستجيبون لاحتياجات ولا شيء سواها. جرد ذلك الأستاذ الجامعي من دوره كمنتج للمعرفة إلى تاجر يروج ما تحتاجه الشركات التي لم تعد تتلكأ في تمويل مشروعات البحوث الجامعية بعد إخلائها من قيمتها المعرفية.

ولكي يكون الحديث منصفا لا بُد من التأكيد على أن المؤلف لم يوجه النقد للجامعات كونها أخذت بنظام التخصصات، فكل ما كان يرمي إليه الكشف عن بروز ظاهرة الخبير بفضل التشجيع الذي تروج له الجامعات الذي يمعن في تجزأة التخصصات بشكل اعتباطي حتى بلغ الأمر حالة من العبثية غير المبررة المصاحبة لعدم الجدوى.

أخيراً... إذا كان كتاب "نظام التفاهة" ضرباً من النقد القاسي للنظام الرأسمالي، فإن مراجعة الذات بطريقة موضوعية من ضرورات الحياة. وبطبيعة الحال فالانحراف والفساد يمكن أن يصيبا أي نظام، ولكن يتحمل النظام الرأسمالي مسؤولية كبرى لتلافي هذه العثرات لكونه أثبت قدرته على التطور والارتقاء بالمجتمع. ولربما تكون دعوة الكاتب للثورة على هذا النظام موجهة أيضاً لأنظمة أخرى كي تستيقظ من سباتها وتبدأ بإثبات جدارتها، وتسعى لتحسين الحياة الإنسانية بدلاً من أن تدفع بها إلى الانهيار.

واستطرادا لذلك يمكن القول بأنه على الرغم من الاجتهادات الموثقة والغاية في الاستدلال اللتين نجح بواسطتهما المؤلف بتفوق في تشخيص الحالة القائمة للمجتمعات المتقدمة، وساعدته في ذلك خلفيته النظرية الراسخة المنطلقة من فلسفات تشرب بها دونو بخلفيته الاشتراكية اليسارية، لكنه لم يشف غليل القارئ في تشخيص مجموعة من المحطات تمس صلب محتوى الكتاب، كي تتناغم بشكل متكامل مع دعواته المنادية بضرورة التغيير، نتناول الأبرز بينها ونلخصها في ثلاث محطات.

الأولى: أنه لم يأخذنا في جولة سلسة تكشف لنا بدايات هذا التحول نحو هذا النظام المرتكز على الذهنية المتوسطة. فهل كان المصدر هو التحول في أنماط الإنتاج، أم هبت رياحه من سماء الانتقال المفاجئ غير التدريجي، والذي جاء على شكل قفزات متسارعة ومتتالية من مرحلة الثورة الصناعية الثالثة إلى بدايات الثورة الصناعية الرابعة التي يكاد أن يكون هناك إجماع على أن العالم قد ولج مراحلها المبكرة؟

أما الثانية: فهي أن المؤلف لم يُكرس الاهتمام الكافي الذي يستحقه تشخيص الأدوات والآليات التي تعين على مواجهة هذه الذهنية المتوسطة من أجل الانتقال نحو واحدة أخرى مغايرة قادرة على تلافي أخطاء الأولى، وفي وسعها تحاشي الوقوع فيها مجددا في صور أخرى، أو سلوكيات مختلفة.

أما المحطة الثالثة: فهي الصين، فقد أدخل الكاتب الصين، بشكل تلقائي، في قائمة بلدان النظام الرأسمالي التي تعاني من هذا الفكر المتوسط. رغم قناعتنا بأن النظام الصين يشكل حالة فريدة في فضاء الاقتصاد العالمي، بحاجة إلى قراءة متأنية، وموضوعية في آن، بفضل الاختلاف الذي عرفه تحولها من النظام الشمولي الكلي إلى صيغة مهجنة بينه وبين النظام الرأسمالي، وهو ما يميز تجربتها عن نظيرتها السوفيتية.

إن هذه المحطة الصينية، وهي العملاق القادم من الشرق، يكتفي دونو هنا بإشارات يمكن اعتبارها لمحات خاطفة لا تشبع لهف القارئ الباحث عن موقع النموذج الاقتصادي الصيني وانعكاساته التعليمية الاجتماعية من "اللعبة التوسطية" التي تمارسها القوى ذات السلوك الوسطي. وهل في وسع الصين، بثورتها القائمة على "طريق الحرير"، أن تسلك طريقا مختلفا عن الذي يحذر منه دونو؟

وفي الختام، هناك قراءة خاصة ينفرد بها القارئ العربي دون سواه ممن قرأوا كتاب دونو؛ إذ تسيطر على هذا القارئ علامة استفهام كبيرة مُلحة تفرض نفسها عليه وهو يتنقل من صفحة إلى أخرى في كتاب (La médiocratie)، وهي أي تقع خارطة البلدان العربية من فضاء الذهنية المتوسطة الذي شخصه في صيغة انتقادية دونو؟ فنحن، وهذا استخلاص ذاتي، ما تزال تفصلنا سنوات فلكية، وفي اتجاه سلبي، عن المجتمع الذي شخص معالمه الكاتب، سواء في الثقافة أو في التعليم، بل وحتى في الاقتصاد، رغم كل مساحات التقاطع الخادعة التي قد يتصورها القارئ عند المقارنة بين المجتمع العربي، والمجتمع المتوسط الذهنية الذي انتقده بشكل لاذع دونو.

فعند الحديث عن الاقتصاد، ما زلنا لم نلج مرحلة الاقتصاد الرأسمالي التقليدي، دع عنك المتوسط الذي يصفه دونو.

وعند وصف السياسات التعليمية العربية والمناهج التي تُطبقها، نكتشف أن التعليم العربي، بمختلف مدارسه، لم يتجاوز بعد المرحلة التلقينية الساكنة ذات الاتجاه الواحد البعيد كل البعد عن السياسات الحديثة ذات المواصفات الديناميكية التفاعلية المبدعة، حتى في صورها المتوسطة التي ينتقدها دونو.

خلاصة القول.. أصبح هذا الكتاب الذي تُرجم إلى العديد من اللغات من بينها الإنجليزية والاسبانية والعربية، مرجعا لا يستغنى عنه لمن يُريد أن يُقوم النظام القائم، أو يسعى لتقويضه. ففي كلتا الحالتين، سيجد من يرغب في ذلك نفسه في مواجهة قوى التفكير المتوسط، مرتبطة بخيوط اللعبة التي يحركها الكبار المتخفين وراء ستارة المسرح الذي هو الفضاء الدولي، بمكوناته السياسية، ونماذجه الاقتصادية، وخلفياته الاجتماعية، التي لا يمكن لمن يخضع نفسه للذهنية الوسطية أن يفهمها، دع عنك تغييرها.