جوان روبنسون.. المنافسة غير الكاملة وأجور العمال

علي الرئيسي

باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية

يقول نعوم تشومسكي في مقابلة له في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية- نُشرت مؤخرًا في صيغة صوتية (بودكاست)، وأجرى المقابلة أزرا كلاين: "عندما كنتُ طالباً جامعياً في معهد ماسوشتس للتكنولوجيا في الثلاثينات من القرن الماضي، حضرتُ محاضرة للباحث وديج فان موسيس، وهو أحد مُنظري فلسفة التحرر، أي تحرر الاقتصاد من التدخل الحكومي، حيث ذكر أن الحكومات هي التي تُخلق البطالة، وبالتالي مشكلة البطالة هي بالعموم نتاج للسياسات الحكومية.

فالحكومة هي التي تفرض الحد الأدنى للأجور، وتشرف على أوضاع العمال في المصانع، وتُحدد متطلبات أخرى مما يؤدي إلى خلق بطالة في الاقتصاد. لكن لو كان هناك حرية للتعاقد بإمكان العامل الحصول على وظيفة، ولو كان الأجر قليلاً جداً، وعندها ستختفي البطالة؛ أي أن العمال سيضطرون للقبول بأي أجر وتحت أي ظرف؛ لأنهم بحاجة لبيع قوة عملهم ليبقوا أحياء. وقتها طبعا كان زمن الكساد الكبير؛ حيث تم الاستغناء عن العمال بأعداد كبيرة ليس في الولايات المتحدة وأوروبا فحسب؛ بل في جميع أنحاء العالم. بل مات كثير من الناس من الجوع.

لوديج فان موسيس، وهكيز، وملتون فريدمان من أكبر مُنظري الاقتصاد الذي كانوا يعارضون التدخل الحكومي في إدارة الاقتصاد.

عندما حلت جوان روبنسون في كمبريدج بعد قضائها سنوات في الهند بصحبة زوجها، كانت دروس ونظريات الفريد مارشال مُهيمنة على اقتصاد جامعة كمبردج. كان الاقتصاد المارشالي عبارة عن مملكة جميلة من التناظرات؛ بحيث إن العرض والطلب طبيعياً يصلان إلى حالة التوازن أو التعادل. وإن أجر العامل هوما يساوي بالفعل ما قدمه من عمل في عملية الإنتاج. وطالما أن الشركات تقوم بالتنافس بالسعر ونوعية المنتج، والمستهلك قادر على إجبار صاحب المصنع على تحسين سلعته؛ وذلك بشراء سلع أفضل بسعر أرخص من المنافسين، وبالتالي السوق يستجيب لرغبة المستهلك ومما يؤدي إلى زيادة ثروة المجتمع ورفاهيته.

لكن ما أدى إلى زعزعة هذه الصورة المثالية لديناميكية عمل الاقتصاد هو وجود الاحتكار، فإذا سيطر منتج واحد على جزء مهم من حصة السوق، وكان بإمكانه حماية نفسه من المنافسة، سيتمكن من التأثير على خيارات المستهلك، وبيع بضاعته بأسعار تفوق سعر السوق مما يؤدي إلى تعطيل المنافسة وقتل الابتكار. الخبير الاقتصادي ألفريد مارشال، أدرك أن معظم الأسواق ليس بها منافسه كاملة، لكنه اعتبر أن ذلك أمراً عابراً يمكن للسوق أن يصححه آليًا، وأن الأمر الطبيعي هو المنافسة الكاملة، وأن الاحتكار الخالص فقط ممكن أن يُعيق هذ النزعة التصحيحية في الأسواق.

غير أن روبنسون قلبت إطار مارشال رأسا على عقب؛ وذكرت في كتابها "الاقتصاد في المنافسة غير المكتملة"، الصادر عام 1933، أن المنافسة ليست عملية تبادل بين الاحتكار الكامل وبين المنافسة الكاملة، وأن السوق التنافسي ليس بالأمر السائد دائما في الاقتصاد، وأنه فعلا حالة خاصة فقط، وأن الأسواق عادة تصل إلى حالة التوازن عندما يتوقف "التطور المارشالي"، وظواهر السوق الاحتكارية تبدأ في الظهور. روبنسون لم تصل إلى هذه النتائج بدراسة كل صناعة بحد ذاتها، ولكن عبر الأخذ بمجموعة من الافتراضات حول سلوك هذه الصناعات، وبالتالي إخضاع هذه الافتراضات للتحليل الرياضي للوصول إلى قوانين عامة. وقتها كانت قوة هذه الخلاصات تأتي من فائدتها العملية في الواقع الحياتي المعاش.

من أهم الاستنتاجات التي توصلت إليها روبنسون هو احتكار المشتري، في حين أن الاحتكار كمفهوم عام أنه بائع واحد، فإن "احتكار المشتري" هو أن المشتري واحد فقط، وهو من يتحكم في سعر الشراء. وبالتالي جادلت روبنسون بأن العمال- كبائعين لقوة عملهم- دائماً يواجهون وضعاً احتكارياً واستغلالا من قبل من يشتري قوة عملهم. وبناءً على ما قالته روبنسون في معظم الحالات، فإنَّ العمال يتلقون أجورا منخفضة مقابل ما يقدمونه من عمل، وحتى بمعايير رجال كهنوت السوق الحر.

وعندما جرى معارضة إنشاء وتكوين الاتحادات والنقابات العمالية من قبل بعض الاقتصاديين والمحامين، زعما أنها تمنع المنافسة في السوق، دافعت روبنسون عن ذلك بقولها: إن أسواق العمل بصورة عامة تفتقد إلى المنافسة الحرة إلا في حالات محددة، وبالتالي فإن احتكار المشتري سائد في أسواق العمل، ولذلك لابُد من تشريعات حكومية تحمي العمال.

عندما تم نشر كتاب روبنسون ظهر وقتها نجم اقتصادي آخر في كمبريدج، والذي تعاون مع روبنسون، وريتشارد كان، وهوجون ماريلاند كينز، وهذا الأخير نجح في "تثوير" علم الاقتصاد من قبلهم؛ حيث أصدر كينز كتابه "النظرية العامة.. التوظيف.. أسعار الفائدة والنقود" والذي صدر عام 1936، والذي منح الحكومات الخلفية الاقتصادية للتدخل في معالجة العجز الحكومي، والدعم، والمساعدات وخلق الوظائف. وبقيت أفكار كينز مُلهمة لمنفذي السياسات الاقتصادية حتى السبعينات من القرن الماضي. ومثل عمل روبنسون أيضاً ركز كينز على مسألة التوظيف الكامل في الاقتصاد.

اليوم تعود أفكار روبنسون إلى الواجهة مرة أخرى، وتثبت صحة استنتاجاتها مع الأزمات التي يُعاني منها الاقتصاد إثر الجائحة؛ وذلك واضح تماماً من خلال سياسات التحفيز التي قدمتها معظم الحكومات للتعافي الاقتصادي. كما إن نظريات روبنسون بالنسبة للأجور أثبتت صحتها؛ حيث إن تمركز قوة الشركات قد أضعَفَ بشكل كبير أجور العمال، وخاصة خلال العقود الأخيرة؛ حيثُ يقدر الخبير الاقتصادي سيمشا باراكا أن معدل خسارة العامل من الأجور خلال عام واحد حوالي 14 ألفًا.

ولا زال الصراع بين رأس المال والعمال قائمًا، رغم التغيرات الهائلة التي حصلت في آليات الإنتاج وغيرها، وما يحدث مع عمال شركة أمازون ومنعهم من تشكيل النقابات الخاصة بهم رغم تحقيق الشركة أرباحاً خيالية، خير دليل على ذلك.