وداعا جيهان

عبدالله الفارسي

قبل ساعاتٍ من كتابة هذا المقال، كنت أتصفح جريدة الرؤية وصدمني خبر وفاة الأخت الكاتبة جيهان رافع، تسمرت في مكاني لدقائق، تبَّلدت كل حواسي، ذابت شهية الإفطار في جسدي، لم أصدق الخبر كالعادة، كما لم أصدق أشياء كثيرة تدور حولي، رغم أنني من المؤمنين بأنَّ هذه الحياة مجرد كذبة عظيمة وسخيفة.

يبدو أننا في زمن ربيع الأكاذيب المزهرة بالإصفرار والعفن، تصلك الأخبار المُؤلمة فجأة ودون سابق إنذار لتؤكد لك حقيقة الأكاذيب وزيف الحقائق، جيهان رافع كاتبة وزميلة من بعيد، لا تعرفني ولا أعرفها، وإنما كنَّا نكتب ونخربش في هذه الجريدة الكريمة، نرمي همومنا، ونتلخص من أوجاعنا ونسطر آمالنا ونرسم أحلامنا الوردية هروباً من لسعة الأشواك وقرصة الخيبات.

"جيهان" كانت تحب الورد وتكتب عن الورد وتعتني بالورد وتحلم بعالم وردي، وتتمنى أن تعود إلى سوريا، وتزرع ورودها في شرفة بيتها الصغير التي زرعوا فيها القنابل وأنبتوا في حيطانها الرصاص. جيهان لم تكن تعلم بأنَّ الكثير من الورود مليئة بالأشواك، وبعضها ينثر السموم والكآبة ويلطخ السماء بالسواد، رغم وجعها الحاد لم تكن تؤمن بالأشواك، ورغم بؤسها اللاذع كانت تكفر بالسواد، ورغم صلواتها وابتهالاتها كانت لا تعتقد بالفناء. جيهان كاتبة الحب والبقاء، قلم الأمل والرجاء، رحلت بسرعة، كفراشة حقل بيضاء طارت مع نسمة ريح صفراء.

لا أدري لماذا كنت أتمنى أن أتواصل معها وأكتب لها بأنَّ الحب لا يعيش في الشمس، وأن المطر لا يحب الرمال يا جيهان! كنت أتمنى فعلاً لو جمعتنا جلسة شاي في مكتبة عربية منسية، أو وجبة من فطائر الزعتر في مطار دمشق المفجوعة، أو بيروت المنسية، لنتبادل الأمل ونتعاطى الرجاء، بعد كل مقال ينشر لها كنت أقرر أن أطلب إيميلها أو رقم هاتفها من صديقي رئيس التحرير، لكني في كل مرة أتراجع وأتردد، خوفاً من السؤال العربي الطاهر: لماذا تُريد التواصل مع كاتبة تكتب عن الحب والجمال أيُّها الرجل؟

ربما لأنني من الباحثين عن الحب واللاهثين خلف الجمال، حب الحياة، وجمال الأرواح.

وكالعادة تسرق مني الحياة أزهى أحلامي وأطهر رغباتي، فرحلت الرائعة جيهان بسرعة هائلة قبل أن تستنشق رائحة أزهار الأمل التي زرعتها، تركت الأزهار وودعت السحاب.

في كل أسبوع كان لها مقال، كانت تزرع وردها وتنثر أريجها بصمت وبهاء وفرح، كل مقالاتها أزهار وعناقيد تتدلى بنشوة الحياة وضجيج الغايات الجميلة. جيهان شابة تحب الحياة وتنقش العالم بالأهازيج. شابة في منتصف العمر، لكن لم تمنحها الحياة ما تحب ولم تجد في أتون العشق سوى الخذلان والتهشم. شابة نشيطة، متفائلة، مناضلة شعارها "الأرض أمنا ويجب أن نعتني بها".

لم يقتلها كوفيد-19 حتماً، كانت قوية جداً كما ظهرت في سطورها أقوى من الكوفيد، كانت ذكية أذكى من كل سلالاته المتحورة، لكنّ البؤس والشقاء وفقدان الوطن سهامٌ قاتلة وأوبئة فتاكة.. كانت قوية تكتب عن الأمل وتكتب عن الحب وتكتب عن الورد وكتبت مرة عن الجبال، ومن يكتب عن الجبال لا يسقط بسهولة، ولا يُصاب برهاب الارتفاع والعلو. كانت تحلم بالسُّمو وتنشد العلو وتتسلق أغصان الحياة برغبة كالجنون، وفرحا كالهوس.

جيهان، فعلاً أوجعني اختفاؤك المباغت وأفزعني سفرك الأخير.

يفزعني فعلاً اختفاء بشر بهذا النور وبذلك الألق والبهاء.

منذ ساعات رجعت وقرأت كل مقالاتها السابقة لأشحن روحي بتلك الروح الباسمة وبتلك السطور الباذخة بالقوة والإصرار والوفاء للحياة. ذرفت دمعات لأجلها، من باب الوفاء لعمودها الذي كان يصافحني في كل أسبوع، ووجهها الباسم الذي يملأني بالأمل والعبور ويشحنني بالانتظار، انتظار قطار الفرج على موانئ الوجع.

جيهان تستحق أكثر من الدموع وأثقل من الدعاء..

رحلت جيهان رافع  بسرعة عجيبة وهي في السابعة والأربعين دون ضجيج، ودون صراخ ودون حداد يليق بقلبها المفعم بالبياض. لا أعرف من بكى عليها؟

ربما لم يعرف أحد بأنها رحلت إلى العالم الآخر، وربما لا أحد يعرف جيهان رافع كاتبة الحب والأمل وأنشودة الرجاء. لم تحصل من الحياة سوى على سطر في جريدة كانت ترسم فيها الحياة وتنقش النور وتقدح الفرح وتغرس الحب وتزرع الأمل.

أتمنى أن تكون أمها على قيد الحياة لتبكي عليها وتهديها قبلات على جبهتها الشامخة لتمسح عنها وابل المرارات التي ذاقتها طوال عمرها الطري.

رحمك الله يا جيهان.. كنتِ قلماً طاهراً ووجهاً باسماً كشمس صباح دافئة، كزرقة بحر ناصعة.

إلى جنات الخلد أيتها الطيبة الفقيرة..