حمود بن علي الطوقي
الأحداث الأخيرة التي اندلعت في مدينة القدس وأدت إلى الاشتباكات بين الإخوة الفلسطينيين من جهة وشرطة الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى، حول "بوابة دمشق" على مدخل المدينة القديمة، أقدم فيها المتطرفون اليهود على مضايقة المسلمين وأطلقوا هتافات "الموت للعرب" وللمسلمين في محاولتهم الوصول إلى البوابة لمواجهة المحتجين الفلسطينيين.. هذه الأحداث أثبت للأمة مدى صلابة ومقاومة الشعب الفلسطيني المرابط والرافض لتهويد القدس، وأنَّ القدس ستبقى عربية وعاصمة أبدية لدولة فلسطين، وستعود القدس بفضل مقاومة أبنائها المخلصين.
وأنا أتابع هذه الأحداث الموجعة من خلف شاشات التلفاز وأشاهد تلك المقاومة الباسلة من شعب لم يبالِ بالآلة العسكرية والدبابات الإسرائيلية؛ بل قاوم بكل قوة وصمود استطاع أن يجبر المحتل الجبان أن يفر كالجرذان خوفاً من الموت، كل هذه الأحداث التي وقت بالقدس أحيت في نفسي ذكريات الزيارة الخالدة التي قام بها وفد جمعية الصحفيين العمانية إلى مدينة القدس، استحضرت المشهد وكأنما حدث قريباً، رغم أن الزيارة كانت عام 2013.
وأودُ التنويه إلى أنَّ التفاصيل الواردة أدناه في هذا الجزء والجزء الثاني من المقال، سبق وأن نشرتها في هذه المساحة على صفحات جريدة الرؤية الغراء، ولقد دفعني الوضع الحالي لاستذكار ما مررت به من تجربة تاريخية، أُجزم أنها صالحة لكل زمان ومكان.
أذكر جيدا أنَّ زيارتنا للقدس كانت يوم الجمعة الموافق 25 من شهر أكتوبر 2013، كُنَّا على موعد لزيارة القدس الشريف.. القدسُ المدينة الفلسطينيَّة العريقة التي يعشقها الجميع والكل يحلم بزيارتها كبرنا وكبرت معنا القدس، بمجرد صعودنا إلى الباص الذي سينقلنا إلى زيارة مدينة القدس، كُنا وزملائي نترقب بشوق دخولنا القدس، الأرض المُباركة وأرض المحشر.. نعم ستطأ أقدامُنا أرض القدس، ونشاهد أسوارها وأبوابها ومساجدها وكنائسها وقبابها، خصوصاً قبة الصخرة المُذهبة التي أصبحت مألوفة لدينا من خلال مشاهدتنا لها عبر شاشة التلفاز. تحركت بنا الحافلة، وكنت أجلس بالقرب من زميلي المكرم حاتم الطائي رئيس تحرير جريدة "الرؤية"، كنت أتأملُ ملامحه وقد ارتسمتْ على محيَّاه ابتسامة، كان يقول: "يا رفاق هذه رحلة تاريخيَّة، سجلوا ودوِّنوا كل شيء"، وعندما اقتربنا من معبر قلنديا، توقف الباص وترجَّلنا حيث سنتعرض للتفتيش من قبل قوة الاحتلال، كنَّا ننتظر هذه المأساة، ولكننا في الوقت ذاته مُتلهفون لتكملة الإجراءات والسماح لنا بدخول القدس.
كنتُ وزملائي نرتدي الزيَّ العُماني فهو بالنسبة لنا زيٌّ وطنيٌّ، وبالنسبة لأشقائنا في فلسطين يُعبر عن التضامن معهم ومع قضيتهم المصيرية.
وقفنا أمام الحواجز الحديدية في طابور طويل وقف معنا مواطنون من فلسطين كبار في السن يدخلون أيضًا لأوَّل مرة بعد أن حصلوا على التصاريح؛ بعضهم تمَّ السماح لهم، والبعض الآخر تم إرجاعهم بقرار الجندي الإسرائيلي. هذا المشهد أفزعني وكنت أتخوَّف أن يتم إرجاعي أو أحد زملائي، خاصة بعد التحقيق الذي تعرَّض له الزميل عوض باقوير رئيس جمعية الصحفيين آنذاك ، وكان أول الداخلين، كنتُ بعده مباشرة ووقفتُ في الحاجز أراقب الموقف، كان الجندي الإسرائيلي ينظر إليَّ بامتعاض، كنت لا أبالي. إلى أن فُتح لي الباب الحديدي، ودخلت. وبعدها، دخل زملائي تباعًا، ولاحقاً عرفنا أن سبب هذا التحقيق هو زميلنا باقوير؛ حيث كان يرتدي وشاحًا على صدره تضامناً مع القضية الفلسطينية منقوشٌ عليه "القدس لنا".
أخيرًا سُمح لنا بدخول القدس الفرحة لم تسعنا ونحن نترجَّل وندخل القدس، شعرتُ وزملائي أننا نُحرِّر القدس، فما إن وطأت أقدامنا الأراضي المقدسة، ونحن نُهلل ونكبِّر ونرفع إشارات النصر القدس لنا والبيت لنا. طريقنا سيكونُ إلى الأقصى الشريف. في الباص، كُنا نتأمَّل المكان والباص يطوفُ بنا الشوارع، ومن بعيد تلوح قبَّة الصخرة، وكانتْ الأصوات ترتفع: "هذه القبة". ونتشوق لالتقاط الصور. ونتساءل: إذن؛ فكيف سيكون المشهد ونحن ندخل الأقصى الشريف، ونصلي الجمعة في هذا المسجد الذي يُشد إليه الرحال.
كان الباص يطوي الطريق وتلوحُ ملامحُ المسجد الأقصى من بعيد، وشيئاً فشيئاً بدأتْ ملامح قبة الصخرة بنقوشها المُذهبة طلبْنا من سائق الباص أن يقف بنا لكي نلتقطَ الصورة لأول مرة نرى قبة الصخرة وبجوارها المسجد الأقصى، إذا سوف نصل إلى القدس وسنزور كنيسة القيامة، وندخل من باب القدس، ونخرج من باب العمود وباب الواد.. تفاصيلُ المكان والزمان كُنا نعدِّدها، وكأننا نعرفُ الحياة بتفاصيلها؛ حلوها ومرها.
بدأتْ السيارة تدلفُ بنا إلى ساحة الأقصى. ترجَّلنا؛ حيث لا يُسمح للسيارات بالدخول ونحن ندلفُ إلى ساحة المسجد الأقصى. وقد ارتفع أذان الجمعة وما سهَّل مُهمتنا أن مُحافظ مدينة القدس كان برفقتنا؛ كنتُ أتشوَّق لرؤية الأقصى الشريف؛ دخلنا المسجد من باب المغاربي، كانت الأسواق نشطة قبيل أذان الظهر، الكل كان مُرحِبًا بنا ونحن ندخلُ بوابة القدس، فرحتنا كانت كبيرة، بل لا تساويها فرحة. نقتربُ من المسجد الأقصى؛ مع العلم أن كلَّ الساحات هي مسجد أقصى؛ فالمسجد يضُم القباب والمآذن والسبل (جمع سبيل الماء) والمساطب، والمساجد الصغيرة والكبيرة، وأماكن الوضوء، والمحاريب، والشجر والمرافق والخلوات والبوائك والآبار والمدارس والمكتبات والساحات والمشارب. لكن أتفق على تسمية المسجد المبني في جنوب الأقصى بالمسجد الأقصى، الذي بُني في العهد الأموي. وقد تعرَّض المسجد لعدد من الزلازل جعلت المسلمين يهتمون ببنائه وترميمه على طول الزمان. هذه المعلومة عرفتها من المرشد الذي كان يخبرنا عن تفاصيل المسجد.
يتبع...