القاضي فرانشيسكو كابريو

 

عبدالله الفارسي

 

يقولون إذا أردت أن تدرس بلداً ما فاذهب إلى محاكمها، وسترى رحمتها وقسوتها وعدلها وستقف على أخلاق أهلها وجرائمها.

لا أظن أنَّ هناك من لا يعرف القاضي فرانشيسكو كابريو، والذي لا يعرفه ولم يسمع عنه فإنِّه باختصار خارج التغطية، وبعيد عن قريتنا العالمية وما يدور فيها من النوادر والفواجع. فرانشيسكو كابريو هو القاضي الأمريكي الشهير والذي يقوم أخوه الأصغر بعرض كل جلساته علنية مصورة على صفحته في فيسبوك، هذا القاضي المُتخصص في قضايا المخالفات المرورية، والحكم فيها. حين وصلني المقطع الأول لهذا القاضي دهشت فعلاً، أذهلني هذا القاضي، أذهلتني طريقته في التعامل مع المخالفين وتعاطيه مع المخطئين، أصبحت مدمناً على مشاهدة مقاطعه ومتابعة جلساته.

أنا عموماً من هواة حضور المحاكم، وبسبب قرب بيتي من المحكمة أحاول استغلال كل فرصة للتواجد في جلسات المحكمة فأدس نفسي مع الحاضرين وأجلس في المقاعد الخلفية وأتابع أصناف المحاكمات من باب الاطلاع على واقع القضاء لدينا ودراسة طبيعة الجرائم والمخالفات في مجتمعنا.

وطبعاً ليس هناك مجال للمقارنة بين جلسات القاضي فرانشيسكو وجلسات القضاء عندنا. اختلاف هائل في النظام واختلاف في البروتوكول القضائي واختلاف في طبيعة السيكولوجية القضائية.

أدهشني أسلوب القاضي فرانشيسكو كابريو درجة الحشرجة والبكاء، فأصبحت كلما أشعر بقسوة في القلب أرجع لمشاهدة مقاطع هذا القاضي الإنسان، حين يرتفع معدل البلادة والغطرسة في قلبي، ألجأ لمشاهدة جلسات هذا القاضي الإنسان، حين أشعر بقسوة في القلب أرجع لمشاهدة الرحمة بكل تجلياتها مع هذا القاضي الإنسان.

لقد اضطررت إلى متابعة حلقاته، وانتظارها بفارغ الصبر، لأنني دائماً أشعر بعطش شديد و بحاجة ماسة إلى حقن ولقاحات للتزود بالعطف والشفقة والإنسانية. حين تتبلد إنسانيتي أحاول إعادة تأهيلها و"فرمتتها" بمشاهدة مقاطع من إنسانية هذا القاضي الرائع.

هذا القاضي نموذج عجيب وفريد من القضاة؛ بل هو في الحقيقة مدرسة قضائية رفيعة ومنهج من مناهج العدالة المنبثقة من الرحمة والعطف وتقدير ظروف الإنسان، إنه كتاب جميل في القانون يستحق التدريس والتعليم والتلقين، إنه ميدان مفتوح النوافذ من الرحمة إنه منبر صادح للشفقة إنه قصيدة في الإنسانية الحقيقية.

كم نحن بحاجة ماسة اليوم وفي ظل هذه الظروف الصعبة، وفي أتون هذه القتامة، والقسوة، والتنمر والتسريح الظالم من العمل، ومحاربة الناس في أرزاقهم كم نحن بحاجة إلى قاضٍ إنسان، قاض رحيم، قاض شفوق؟

كم نحن بحاجة ماسة اليوم في ظل تدهور أوضاع الناس المعيشية وصعوبة الحصول على مصدر رزق وانخفاض الأجور وغلاء المعيشة وانحسار الخير والتسول من أجل كيس من الخبز والسرقة من أجل البقاء على قيد الحياة  إلى قاض عطوف؟ قاض يدرك حقيقة الواقع، قاض يفهم طبيعة الحياة، قاض ذاق مرارات الحياة وخبرها، قاضٍ لا يعيش في برجه العاجي قاضٍ يبتسم في وجه المخالفين والمطلوبين والمديونين ليمنحهم الأمل، ويغرس في أرواحهم النور والبهجة واليسر والفرج.

فمن هو فرانشيسكو كابريو؟

هو رئيس القضاة في مدينة بروفيدنس بولاية رود آيلاند الأمريكية يبلغ من العمر 83 عاماً.. قاضٍ، إنسان بكل معنى الكلمة، شعاره الدائم، "كل مخطئ قادر على تغيير سلوكه إلى الأفضل إذا منحناه الفرصة وساعدناه على ذلك".

ضرب لنا هذا القاضي المسيحي الذي لم يسجد لله سجدة واحدة أروع الأمثلة في العدالة الحقيقية، والإنسانية والرحمة والعطف والحب، فكل المخالفين في نظره بشر، لهم ظروفهم النفسية والاجتماعية، والعصبية، ويجب مراعاة كل ذلك في أي حكم نصدره في حقهم.

يقال إنِّه لم يصدر حكماً أغضب أحداً منذ أربعين عامًا، تخيلوا، أربعين عاماً لم يصدر حكماً قاسياً على أحد. قاض باسم، بشوش، يستمع للمذنب، ويمنحه كل الوقت للتحدث والتعبير والإفصاح عن سبب وقوعه في الخطأ،. ومبررات الزلل. قاض قمة في الأخلاق، ذروة في التواضع وقامة في الاحترام، شاهدت له مرة موقفاً عجيباً أبكاني، لم تعتده عيني، ولم تألفه أذني. فقد أعتذر أمام الجميع وعلى الملأ حين وقع في خطأ مع أحد المخالفين، واعترف أمامه بأنَّه لم يفهم كلامه بشكل سليم وأنه أساء التقدير.

ومرة أخرى أبكاني أيضاً وأسال دموعي مدرارة على خدي، حين تبرَّع لمخالف من جيبه الخاص لتسديد مخالفته، ثم طلب منه الاقتراب من المنصة، لماذا؟؟.. ليوبخه لينهره، لا!! وإنما ليُعانقه، نعم ليُعانقه، لأنَّ المذنب كان فعلا محترما وجديرا بالعناق.

تخيلوا قاضيا يُعانق مذنبا ومتهما!! يا له من خلق، ويا لها من رحمة، ويا لها من صورة رائعة بديعة فاتنة ويا لها من شفقة ويا لها من رحمة وياله من تواضع جم ورفيع، أراد أن يعانقه ليشعره بأنَّ الدنيا ما زالت بخير، وأن الإنسانية ما زالت تتنفس ولم تمت.

هناك المئات من الأشخاص من مختلف ولايات أمريكا يرسلون له مبالغ مالية لأجل استخدامها في السداد عن المُعسرين وغير القادرين على سداد مخالفاتهم وتفريج كرباتهم. كان هذا القاضي إذا ما شعر بأنه كان قاسياً في حق أي مخالف وقف أمامه مذنبا، يتراجع عن قسوته بسرعة ويتداركها، ويخفف من حدة غضبه ويلجمها.

وحين سئل لماذا تفعل ذلك؟ قال بكل تواضع: "أنا إنسان، وجلَّ من لا يخطئ".

يدخل فرانشيسكو كابريو إلى قاعة المحكمة وهو ليس مجرد قاض فحسب، بل هو رئيس قضاة في ولاية عدد سكانها أكثر من 2 مليون نسمة، يدخل القاعة وهو يبتسم ويقول عبارته الرقيقة الرحيمة، الخالدة: "أنا لا أرتدي شارة تحت معطفي، وإنما ارتدي قلبا رقيقا نابضا".

من أين تعلم فرانشيسكو كابريو هذه الأخلاق القضائية السمحة، لا أستبعد أبداً أن هذا القاضي عكف على قراءة تاريخ القضاء الإسلامي، إنه حتماً قرأ سير أشهر قضاة الإسلام وأروعهم، إنه لا محالة استمتع بمواقفهم العظيمة، إنه بلا شك التمس نور قلوبهم الكبيرة، أنا متأكد أنَّ هذا الرجل قد قرأ شيئا كثيرا عن تاريخ عظمة القضاء في الإسلام، الإسلام القديم، وليس إسلام اليوم، إسلام الرحمة والقوة والكرامة والأنفة والعدالة، وليس إسلام اليوم حيث يتصف بعض معتنقيه بالخنوع والخضوع والانحناء.

وكم نحن بحاجة إلى أمثال القاضي شريح والقاضي إياس، والقاضي نصر بن زياد، والقاضي المنذر البوطي، والقاضي سوار بن قدامة، وغيرهم من قضاة الإسلام الذين حفظت كتب التاريخ عدلهم ومواقفهم وهيبتهم وشجاعتهم في نطق كلمة الحق وعدم الرضوخ لمطالب السلاطين وأعوانهم وأذنابهم.

كثرت المساجد العظيمة في عالمنا الإسلامي، بضخامة محاربها، وارتفاع مآذنها ومتانة بنائها وروعة زخارفها، إلا أنَّه مازالت تلك المساجد عاجزة عن إنتاج أمثال أولئك القضاة النورانيين الرحماء الذين سطروا العدالة بخيوط من ذهب، ونقشوا الحق بسطور من ياقوت!!

كم أحبك أيها القاضي فرانشيسكو؟ وكم أتمنى مقابلتك وعناقك؟ ولو كنت أملك مبلغاً فائضاً من المال ورفاهية في الرزق لسافرت إليك وجلست بين يديك.