رسالة أخيرة إلى روح راشد

 

مسعود الحمداني

Samawat2004@live.com

 

إلى روح الصديق راشد بن حمدان الحاتمي الذي رحل إلى جوار ربه يوم السابع من رمضان 1442هـ..

صباحٌ جديدٌ يُشرق مرة أخرى، صباح دون ملامح، ودون وجه، ودون شمس، يلفه الموت، ويفترشه الهلاك، رحيل فاجع آخر، ومباغت لصديقٍ نودعه دون كلمة، لم يكن الرحيل هذه المرة عادياً، نحن الذين اعتدنا سفر الموت، وحملنا نعوش الأصدقاء والأحبة، ومشينا في جنازات الأصحاب، غير أننا هذه المرة غير قادرين على الوصول إلى ذلك العزيز، ولم نُعد قادرين على إلقاء نظرة وداع أخيرة على وجه ملأ المكان ابتسامات، وأملا، وحياة، حيل بيننا وبين التشييع، وبين النظرة، وبين الدمعة، حتى لكأن الراحلين يسكنون في أرض بعيدة لا يمكن الوصول إليها، أو تخطي مساراتها، ومسافاتها.

رحل راشد الحاتمي الأسبوع الماضي، في يوم مبارك من أيام شهر رمضان، (لعله كان يوماً لائقاً برحيل روح طاهرة كروحه)، رحل دون وداع، ودون كلمة، ودون رسالة صباحية اعتاد تبادلها يومياً لسنوات، رحل وترك خلفه الأحلام الكبيرة، والأمنيات المرصعة بالحب والجمال، وحمل حقيبته وملفاته التي كان يتأبطها كلما ذهب إلى مقر العمل تسبقه ابتسامته الناصعة كقلب لم يعتد غير زرع الأمل، أدركه الموت دون أن يرف له طرف، وحمله بعيدًا إلى ملكوت السماء مكللا بعبارات الألم والحزن، غاب به عن الأعين، قبل أن يجف مداد الحلم، وقبل أن يمسح دمعات الروح التي لم تعد سوى رسالة وداع أخيرة.

لن يعود مرة أخرى إلى ابنه "عبد العزيز"، ولن تراه أسرته الصغيرة، وستفتقده كثيرا كثيرا، كما سيفتقده الأصدقاء، والأحباب، لن يعود ليبعث رسائله، ولن يلقي ابتسامته التي تسبق لقاءه، ولن يحمل معه سوى تلك "التشاؤلات" البسيطة التي كان يخبؤها تحت معطف الضحكات التي ينثرها في ممرات الوزارة، لن يبعث بعبارات التحفيز التي يحاول بها أن يتغلّب على المحبطات من حوله، ويرسلها كل صباح مع باقة ورد صغيرة، ودعاء بيوم جميل آخر، سيرحل كل ذلك خلف نعشه، لن يبقى سوى الأثر الذي تركه في قلوب الآخرين، وستظل في الذاكرة مواقفه التي كان يجاهر بها بهدوء ودون انفعال، ودون ضجيج.

كان بيننا موعد على أمل اللقاء قريبا، حين تخف وطأة "الحظر"، وتعود الحياة إلى بعض اعتياديتها، هناك الكثير الذي نتقاسمه، ولا نعرف عنه، كانت رسائله الصباحية فاتحة كل يوم، وفاكهة كل شمس، غير أنها توقفت فجأة دون سابق إنذار، وساد الصباح صمت عميق، أصبحت الرسائل صماء بكماء دون كلمات، ودون وجه أو لسان، توقف كل شيء، ولكن الأمل ظل قوياً بأن يعود الصديق العزيز إلى بيته ومكتبه، مؤزرا بالأمل، وروح السلام، كانت رسالته الأخيرة لي ـ النصية هذه المرة ـ تقول "اسأل الله أن تمر الوعكة بسلام"، غير أن توالي الأحداث كان ينذر بغير ذلك، دخل راشد العناية المركزة، وما أدراك ما العناية المركزة هذه الأيام، وفجأة يصل الخبر الفاجع، خبر رحيله المباغت ـ هكذا ـ دون مقدمات أو حسبان، وصلني الخبر كالصاعقة، لم أصدق ما سمعت، توقف الزمن فجاة، وترقرقت دمعات القلب بين الرمش والرمش، عدتُ إلى هاتفي فإذا رسائل النعي تنهال من الأصدقاء، وغير الأصدقاء تنعى رجلا ذاب حبا وعشقا لوطنه، وأخلص لعمله، وتفانى ليصنع خانة خاصة به في أرواح من حوله.

لعل الموت في زمن الموت لم يعد مستغربا، ففي كل يوم نفقد صديقا وغاليا، دون أن نملك له شيئا، فالأمر كله لله، ونقف مستسلمين أمام مصائب الفجع اليومية، نحاول أن نتعايش مع وضعٍ أصبح كطاعون يسوق الناس أمامه، دون نظرة وداع، أو كلمة حب، أو صباح أخير، هنا حيث تقف كل العقول عاجزة عن معرفة سر الحياة، وسر الموت، ليس في الرحيل جديد، غير أننا فقدنا عزيزا آخر.

نسأل الله الرحمة للعزيز راشد الحاتمي، وأن يتغمده بواسع رحمته، وأن يلهم أهله الصبر والسلوان، وأن يرحم روح كل من رحلوا عنا إلى ملكوت الله في هذه الجائحة التي لا تبقي ولا تذر.