موقف للعبرة

 

عبدالله الفارسي

قبل فترة ليست بالطويلة التقيت زميلا فلسطينيا، اشتغلنا معاً في مدرسة واحدة في العام 1992 كان في تلك الفترة في السادسة والثلاثين من العمر، كان يتمتع بقوة بدنية ظاهرة، كان جسده كتلة صلبة متماسكة، كان طويلا ذا أكتاف وقوام ممشوق.

ناهيك عن أناقته الدائمة وتنسيقه في ملابسه وذوقه في اختيار أحذيته، كان يحمل جمالا في الوجه ونضارة في الملامح، إضافة إلى نشاط وهمة في العمل ورغبة في العطاء والبقاء. كان جديرًا بالغبطة مثيرا للحسد، إلا أنه كان يحمل بعضا من الغرور وشيئا من الكبر، فكان يرى نفسه فوق الجميع فتراه يخاطبنا بتعالٍ، ويمشي بيننا بعجب وخيلاء، كنت أحسده على تلك المشية الثابتة الرزينة المتوازنة كأنه عسكري شيشاني.

وعموماً تلك الصفات هي صفات مرحلة الشباب، كلنا كنا نحمل شيئا من تلك الصفات المنبعثة من حب الذات وحب الحياة ولكن بشكل متفاوت كل حسب تربيته وأخلاقه؛ فشهيتنا للحياة آنئذ كانت منطلقة بصورة ظاهرة ورغبتنا فيها كانت عارمة جارفة.

مرت السنوات سريعة، ثلاثون عاماً، كأنها ثلاثين أسبوعاً والتقيته فجأة، صادفته ذات نهار في أحد المولات، صدمني منظره درجة الذهول، كان متهالكاً كالبيت الخرب، اختفى ذلك الجمال الباهر، وانطفأ ذلك الألق الساطع، وارتعشت تلكم القدمين القويتين الثابتتين، وانحنى الظهر وانكسر. كان يضحك بصعوبة ويحاول أن يتشدق أمامي بمعاناة كبيرة.

تفتت الأحلام وانطفأت الآمال وبقيت أمنية عزيزة واحدة وهي طلب الستر وحسن الخاتمة فيما بقي من الحياة الفانية. تأملت زميلي الفلسطيني، صورة كاريكاتورية للإنسان حين يتجاوز الخامسة والستين ويقرع أبواب السبعين، يالها من صورة مؤلمة. لكنها صورة صادقة وطبيعية جدا.

فالخالق عزّ وجلَّ حدد مراحل العمر وأعطى كل مرحلة صفاتها وخصائصها، ضعفا فقوة ثم ضعفا ونهاية.

حضارات عظيمة اختفت وتلاشت، شعوب عظيمة وقوية تلاشت وانمحت، ديناصورات مرعبة ذابت وانصهرت.

الانطفاء والاندثار والتضعضع لابُد منه مع التقدم في العمر، والجميع يجري إلى مرحلة الإندثار دون أن يدرك ذلك، وإن كان يحاول أغلبية البشر تجاهل ذلك.

تبقى المعنويات فقط هي العامل الحاسم في بقاء صلابة الإنسان ونشاطه في شيخوخته ولكن أي معنويات مرتفعة التي يحملها الإنسان العربي في زمن الانحطاط والذل والخزي.

الكل سيندثر والكل سيتلاشى "إنك ميت وإنهم ميتون".

من لم يضعضعه المرض ويهده السقم، ضعضعه الهم وخلخله الغم، ومن يتحصن من الهم ويتلقح من الغم وينجو من براثنهما ستسمح له الحياة بالمضي قدماً لبعض الوقت ثم ستكنسه الأيام وستقتلع رياح العمر أوتاد خيمته الهزيلة ويتلاشى في لحظات. إنها الحقيقة التي يهرب منها الجميع ولا يستسيغها ولا يحب سماعها أحد.

هذا الوهم الهائل الذي يسمى "الحياة" والذي يلهث خلفه البشر، يركضون في الأرض دون وعي يدوسون على رقاب الضعفاء ويكسرون صدورهم ليرتفعوا ويتمكنوا ويجمعوا المال والذهب ويسكنوا القصور ويكدسوا الدثور، ستنتهي مغامرتهم الحمقاء هذه في لحظات.

فهل من مدكر؟!

هل من مدكر بأنَّ الحياة كذبة كبيرة لا تستحق منِّا كل هذا الصراع، ولا تحتاج كل هذه الأسلحة، لاتحتاج كل هذه التمثيل والتحايل والتخريب والتهريج والضجيج.

قال زميلي الفلسطيني لحظة وداعنا: فعلاً يا صديقي، لقد ضحكت علينا الحياة، لقد خدعتنا، ولم أتوقع يوماً ما أن أكون بهذه الصورة المزرية التي تراها!

تركني ومضى بصحبة ابنه يتكئ يمينا على عصاه ويستند يسارا على كتف ابنه. وقفت أتأمله حتى اختفى عن ناظري كما يختفي قرص شمس المساء المتوهج خلف الجبال.

الوصول إلى مرحلة الوعي التام والنضج الخالص والعظة والعبرة قبل فوات الآوان ضرورة من ضرورات وداع الحياة باعتذار صادق ومغادرتها بأسف طاهر.

فانتبهوا.. لا تغتروا بصحتكم وجمالكم وعضلاتكم، كلكم ستترهلون، وتتضعضعون ذات يوم.