الكلب الأسود

 

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

 

حُلت وثاق الشاب النحيل وتحسس رسغه من أثر الوثاق، حدق بابن عمه الذي يهدد الشريد بالفأس. انقض الشاب على ابن عمه مطوقاً ذراعيه حول بطنه البارزة برأسه المغطى بالتراب إلى أن بطحه أرضاً. انهال الشاب النحيل بالضرب على ابن عمه السمين، ويأخذ حفنات من التراب ويحشرها بفمه، ولم يتوقف إلى أن أمسك به الشريد، وأبعده عنوةً عنه.

نفث السمين التراب من فمه وكح بقوة إلى أن دمعت عيناه، التفت إلى الشاب والشريد وصرخ غاضباً "أنكبرك؟" (أي: هل جننت؟)، منع الشريد الشاب من التقدم خطوة واحدة نحو السمين فما كان من الشاب النحيل إلا أن بصق عليه. رفس الشاب التراب والحصى بقدمه نحو ابن عمه وقال بجنون أعمى" اَكَوب حَار، هَتَّ اَشركك بَيَس طَهْون"(أي: أيها الكلب الأسود، أنت من فعل بها تلك الفعلة)، صعق السمين وجحظت عيناه بهلع، لقد رفع ستر قبوه وفاحت حقيقة أمره. نفث بنزق وضرب الأرض بيده واستقام واقفاً، حرك طرف لسانه داخل فكه وابتسم بدناءة وقال " كَيسَكْ تهوم دَيتيْ من الصِيْنيَّت، بتيك شوهم" (أي: وجدتهم يأكلون من الصحن فأكلت معهم). ارتجفت شفتا الشاب الغليظة ولمعت عيناه، تصلبت قدماه في بقعته لا يقوى على الحراك. امتدت قبضة الشريد نحو فك السمين الضاحك، فانكفأ على وجهه، ووضع قدمه فوق رأسه يثبته أرضاً غارساً خده بالتراب.

دفع الشاب الشريد بقوة، فكاد أن يقع لولا أن حاول التوازن، أخذ الشاب حجارة متوسطة وهشم بها رأس ابن عمه. تدفق الدم وتناثرت قطرات حمراء غطت وجه الشاب واختلطت مع التراب الأبيض. قبض الشريد ساعد الشاب التي تمسك بالحجارة، حدق الشابُ بالشريد وشفتاه ترجف والدم يلون جزءاً من رموش عينيه الطويلة، ارتعشت قبضته وسقطت الحجارة وتسارعت أنفاسه بتوتر، وقال بجزع " لتغك تش لتغك تش" (أي: قتلته، قتلته) تفقد الشريد الرجل المثخن بدمائه يتحسس العِرْق النابض بعنقه، زفر الشريد وهز رأسه بإشارة لا. جثا الشاب النحيل على ركبتيه وتخللت أصابعه النحيلة شعره، وشد خُصل شعره الملتفة بارتباك وفزع، كان يفكر بعمه الذي رباه كيف سينظر في عينه بعد أن قتل ابنه.

بسط الشريد كفه على صدر السمين بعد أن سمع آهة تألم صدرت منه، رفع الشاب رأسه وحملق ببلاهة بالشريد وضم قبضتيه متوجساً، وضع الشريد طرف شاله فوق الجرح الذي ينضح ليسد تدفق الدماء، وقال للشاب " دَعَت صَحَيّْ، عدلش شي"(أي: لا يزال حياً، ارفعه معي). سحب الرجلان الجريح تحت الظل، ونادى الشريد على الأم قائلا" أتيث ، أتيث"(أي: يا امرأة، يا امرأة)، لعلها تعرف بعضاً من حيل التطبيب يوقف النزيف.

تفحصت الأم الجريح ورأسه المائل ودمه الذي ينضح، وعادت أدراجها إلى داخل الكهف ومن ثم خرجت تحمل رماد النار وكبسته فوق الجرح وأعادت الكرة ثلاثاً، ثم لفت رأسه بخرقة بالية، رفعت يد الجريح اليُمنى المكتنزة تتفحص البرص، حررت ساعده بقرف، ووقفت ثم قالت لهما "اودماش بجدريت، بعادول ايريش خارين" (أي: ابسطوه على الأرض وارفعوا رأسه قليلاً). رمقت الأم الرجلين بحنق فالمصائب تتوالى اليوم ولا تتوقف في هذا النهار. أمرت الشريد بأن يشعل النار ويغلي الماء، بينما الشاب عليه جمع الحطب والبحث عن طعام والأفضل أن يصطاد "ثفن" أي حيوان الوبر والذي ينتشر في هذه الشعاب، وأن يجلب معه بعض النباتات العلاجية.

أسدل الليل أستاره وارتفع بالسماء قمره وتلألأت دُرَره، ونهام البوم يعلو حيناً ويهدأ، تصاعدت رائحة شواء حيوان الوبر، بينما الشريد شرع بالاستفراغ، حينما اشتم رائحة الشواء، فهرب يتوارى خلف بعض الصخور ولف شال حول أنفه.

انتصف الليل وشارف الفجر، والمخاض لا زال على قدم وساق. ماءٌ يُغلي وجلبة الأم والأطفال نيام بعد أن شبعوا ولأول مرة منذ أشهر. وضعت الخرساء أخيراً مع بكرة الإصباح، إنها فتاة، قطعةٌ حمراء غضَّة أشعلت الوادي بالبكاء. تقدم الشريد والشاب النحيل إلى مدخل الكهف يحمل أحدهم مشعلاً من النار المتقدة. تحسست الخرساء ابنتها تحاول فتح جفنيها وتتلمس قبضتها الصغيرة، وترفعها وتضع أذنها على صدرها تستشعر نبضها. استرخى جفناها والعرق يتصبب من جبينها. رفعت ابنتها باتجاه الأم وأصدرت مأمأة متقطعة مبهمة. حركت الأم أصبعها نحو أذنها وفمها وهزت رأسها بإشارة نعم إنها تسمع وتصدر صوت بكاء، ضمت الخرساء ابنتها إلى صدرها بقوة، وأطلقت مأمأة أخرى غير تلك التي أطلقتها سابقاً، نبرة صوتها الغامضة المبهمة لها وقعٌ خاص ونغمة فرحة، وفاضت عيناها بملوحةٍ شفافة رقيقة تنساب بسكون وتلتقي عند ذقنها.

زفر الشاب النحيل وقلب لسانه في فكه بمرارة، وعاد أدراجه نحو الوادي يحملق في الخيوط البرتقالية والحمراء التي ترتفع على استحياء بين القمم السوداء.