التعاون مع الصين

حاتم الطائي

زيارة وزير الخارجية الصيني للسلطنة تؤكد عمق العلاقات الثنائية

الشراكة الاستراتيجية مع الصين تتوازى مع نمو واضح في العلاقات الاقتصادية

توافق عماني صيني على إحلال السلام ودعم التنمية في أنحاء العالم

منذُ فجر التاريخ، وضعت الحضارات المُتعاقبة الأسس والقواعد لنواة ما نُعرِّفه في وقتنا المعاصر بالتعاون الدولي، وإذا ما فتحنا خريطة العالم القديم ونظرنا إلى أرض عُمان، لوجدنا مدى تحقق هذا التعاون في صورته الأولية، خاصة تجاه الشرق وتحديدًا الصين، فكان التاجر العماني أبو عبيدة عبدالله بن القاسم من أوائل العمانيين والعرب الذين وطأت أقدامهم الشواطئ الصينية في منتصف القرن الثامن الميلادي، ليُبرهن للعالم أجمع أنَّ العمانيين وقبل قرون طويلة سعوا إلى فتح أبواب التعاون مع مختلف شعوب الأرض، بل اجتهدوا لاكتشاف طرق وبلدان لم تصل معارفهم إليها يومًا، فنجحوا في تأسيس علاقات مستدامة أساسها التعاون البنّاء والشراكة والمصالح المشتركة.

علاقاتنا، نحن العمانيين، مع الصين لم تتوقف؛ بل ظلت محتفظة بهدوئها ورصانتها، ربما شهدت خفوتًا في فترات معينة، لكن لم تأفل يومًا، وتعاظمت العلاقات مع بداية عهد النهضة في سبعينيات القرن الماضي، ونجح المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- على مدى خمسة عقود في بناء علاقات وطيدة بين عُمان والصين، واستطاع البلدان تطوير علاقات التعاون والصعود بها إلى مستوى غير مسبوق، ففي عام 2018 وبينما كان البلدان يحتفلان بمرور 40 عاماً على بدء العلاقات الدبلوماسية، جرى الإعلان عن إقامة علاقة الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، فانتقل الطموح المشترك إلى مرحلة متقدمة، تستهدف تعزيز التعاون وعلاقات الشراكة، بما يحقق تطلعات قيادتي البلدين وشعبيهما.

ولقد جاءت زيارة معالي وزير الخارجية الصيني إلى السلطنة قبل أسبوع، لتؤكد مدى عمق ومتانة هذه العلاقات، حيث أجرى معاليه مباحثات مثمرة مع كبار المسؤولين في الدولة، هدفت إلى مزيد من التعزيز للعلاقات الوطيدة القائمة، وخاصة فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والاستثمارية.

وتتوازى علاقات الشراكة الاستراتيجية مع الحرص الصيني على ترسيخ أسس التعاون، عبر استثمارات جادة توظف أحدث التقنيات وتستفيد من المقومات الاستراتيجية التي تتمتع بها السلطنة، وخاصة في المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، وغيرها من المشاريع. وفي القلب من علاقات التعاون الاقتصادي يتربع التبادل التجاري بين البلدين على قمة جبل هذه العلاقات، وفي المقدمة منها مبيعات النفط العمانية إلى الصين، التي تحتل المركز الأول بين مشتري الخام العماني، فضلاً عما تستورده السلطنة من سلع وبضائع تلبي الاحتياجات المحلية، وما يؤكد قوة هذا التبادل التجاري أنه وصل إلى 18.64 مليار دولار خلال العام المنصرم.

هذا إلى جانب ما تنفذه الشركات الصينية من استثمارات واعدة في "الدقم"، في قطاعات عدة، أهمها الثروة السمكية واللوجيستيات والمعادن فضلا عن قطاع البتروكيماويات، والملاحظ في هذه القطاعات أنها ضمن مستهدفات الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، وتندرج ضمن خطط السلطنة لتعزيز التنويع الاقتصادي، والاستفادة من الإمكانيات الهائلة التي تتمتع بها بلادنا، فضلا عن الموقع الاستراتيجي والمكانة الدولية المرموقة التي تحظى بها عُمان في المحافل كافةً.

لكن ثمة نقطتين محوريتين في العلاقات العمانية الصينية في الوقت الراهن، أولهما مشروع "الحزام والطريق"، وهي المبادرة الصينية التنموية العملاقة التي كشفت عنها النقاب قبل أعوام، وهي قيد التنفيذ حاليًا، وثانيهما دعم الاستقرار والسلام العالميين. أما فيما يتعلق بمشروع "الحزام والطريق" فلنا أن نعلم أن عُمان تسهم بدور فاعل في تنفيذ هذه المبادرة العالمية، إذ لا ننسى أن طريق الحرير القديم كان يمر من السواحل العمانية، وما علاقات التجار العمانيين بنظرائهم الصينيين على مدى القرون الماضية سوى تأكيد لهذه الحقيقة التاريخية. ومبادرة "الحزام والطريق" تتقاطع في كثير من تفاصيلها أيضا مع رؤية "عمان 2040"، فالأهداف التنموية المستدامة التي تطمح لها المبادرة الصينية العالمية، تتفق كذلك مع أولويات الرؤية المستقبلية.

النقطة الثانية المتمثلة في التوافق العماني الصيني على إحلال السلام والاستقرار في العالم، يعكس مدى إدراك ورؤية قيادتي البلدين لأهمية أن يعيش الجميع في هذا العالم في استقرار ورخاء، وهذا لن يتحقق سوى بتعزيز التعاون وتكثيف الجهود الرامية لنزع فتيل الأزمات في مختلف بؤر التوتر والصراع حول العالم.

مسار العلاقات العمانية الصينية يمثل أنموذجا يحتذى به في التعاون المشترك، فالصين كدولة عظمى، وعمان كدولة لها ثقلها الدبلوماسي وحضارتها الضاربة في عمق التاريخ، قادرتان على تطوير آفاق التعاون لمستويات تلبي التطلعات والطموحات، ولعل من أبرزها في الوقت الراهن أهمية التعاون بين البلدين في قطاعات الصحة والتكنولوجيا والبحث العلمي والزراعة والتصنيع، فهذه القطاعات تشهد تقدماً هائلاً في الصين، فمنذ بدء تفشي فيروس كورونا، عكف العلماء الصينيون على صناعة لقاح مضاد للوباء، ونجحت الشركات الصينية في إنتاج لقاح معتمد دوليًا، بل أوصت به منظمة الصحة العالمية، وحقق نجاحات مشهود لها في عدد من دول العالم، خصوصا تلك التي شاركت في التمويل أو في التجارب السريرية، وخلال المرحلة المقبلة ستبدأ دولة عربية في تصنيع هذا اللقاح بهدف التوزيع الإقليمي. أيضاً الصين تملك خبرات كبيرة في مجال البحث العلمي، وآن الأوان أن نزيد من أعداد طلابنا المبتعثين إلى الصين، فالجامعات الصينية تحتل مكانة مرموقة بين أرقى جامعات العالم، وتحظى بتصنيفات متقدمة، بل إن للصين مؤشرا خاصا بها وهو مؤشر "شنغهاي" لأفضل ألف جامعة حول العالم. الحال ذاته في قطاع التكنولوجيا؛ إذ باتت الصين منافسا عنيدا لوادي السيلكون الأمريكي، فكبرى شركات الهواتف الذكية والحواسيب صينية، بل إن أكبر شركة لخدمات الجيل الخامس حول العالم شركة صينية، وهي الشركة التي أثارت ضجة كبيرة وكانت من حجج الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

إذن نحن نتحدث عن عملاق اقتصادي، وقوة عظمى لا يستهان بها، تملك حق النقض "فيتو" في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، دولة تسعى للتنمية والسلام، دولة تستثمر في جميع القطاعات، دولة تملك علاقات رائعة مع الدول العربية، وفي القلب منها وطننا العزيز عُمان.

وختامًا.. إن علاقتنا مع دولة الصين تمتد لقرون طويلة، وما تحقق خلال العقود المنصرمة دليل على عمق هذه العلاقات، ونثق تمام الثقة بأنَّ الدبلوماسية العمانية ذات الرؤية السديدة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- قادرة على تحقيق المزيد من الإنجازات خلال المرحلة المقبلة، سواء في صورة استثمارات مشتركة أم تبادلات تجارية، وغير ذلك من الخطوات التي تؤكد قوة مسار هذه العلاقات، لكي يتحقق الرخاء والازدهار لكلا البلدين الصديقين.