الصلاة بين العادة والعبادة

عبدالله الفارسي

أنا حقيقة لست متدينا، ولا أصنف ضمن المتدينين العابدين، وأغلب من يعرفني لا يضعني في قائمة الصالحين العاكفين، وكل عائلتي تعتبرني من عباد الله العاديين، لكني أيضا بالمقابل لست عاصيا ولا زنديقا ولا فاسقا، أخطئ وأصيب.. أذنب وأتوب.. إنسان عادي ككل البشر الذين تركهم آدم على الأرض ورحل قائلا لهم: اعتنوا بأنفسكم!

علاقتي مع الله علاقة واضحة وصريحة ومباشرة، إذا ارتكبت إثما فاحشا استحي منه؛ فأتوارى عنه لأنني لا أطيق مواجهته، ويسقط ماء وجهي حياء من مخاطبته ومواجهته. وأنا صراحة لست من مدمني المساجد ولا أنتمي لجماعة الراكضين إليها.. أزورها بغير انتظام، وأدخلها بانقطاع؛ لأنني متقين تماما بأن الله ليس في المسجد وحسب.

سألني جاري ذات مساء: لم أرك في المسجد منذ أيام؟! خير إن شاء الله!! قلت له: لقد ارتكبت ذنبا، وأستحي من الله أن أقف أمامه وأنا أحمل رائحة ذلك الذنب ونكهته!

أحتاج إلى أيام عديدة لكي أنسى فعلتي ويذوب مفعولها في عقلي ويتلاشى عفنها من قلبي، حتى أتعافى منها، ثم سأعود بعدها إلى مسجدكم وأتركع معكم بإذن الله.

اندهش جاري، وقال: يا رجل كلنا نرتكب الذنوب، كلنا نكذب ونحقد ونحسد ونخون الأمانة ونقترف الصغيرة ولا نتردد في ارتكاب الكبيرة، لكننا نركض للمسجد حين نسمع الأذان ونصلي ونركع ونسجد ونقرأ القرآن أيضا. وأردف: كل هذه المساجد مكتظة بالمذنبين، ممتلئة بالمخطئين.

ياصديقي إننا نذنب ونصلي، لا أظن أن هناك علاقة وثيقة بين السلوك والصلاة، لا تتحسس كثيرا من الذنب، كن طبيعيا يا رجل، وختم خطبته العصماء بالعبارة الإنجليزية العالمية الشهيرة "تيك إت إيزي".

فحمل جاري عقيدته وتركني أتصارع مع عقيدتي.

أنا حقيقة لا أؤمن بتبسيط الذنوب وتخفيفها وتلطيفها ومكيجتها وتسهيلها، من الواضح والجلي أن قاعدة "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" غير متحقق معنا بشكل صحيح.

هذه المزية العجيبة والخدمة الخطيرة التي تتمتع بها الصلاة وتتميز بها دون غيرها من الفرائض ليست مفعلة معنا، الصلاة من منظورنا مجرد صلاة، نذهب إلى المسجد ونتركع. لو كانت الصلاة فعلا تنهانا عن الفحشاء والمنكر، لتغيرت أحوالنا ولصلحت بلادنا، ولأكلنا من فوق رؤوسنا ومن تحت أرجلنا.

فأنا مثلا أصلي وأحرص على صلواتي، لكنني أيضا أحرص على مواصلة ذنوبي وتكرار خطاياي! أنا أصلي لأن العهد الذي بيني وبين الكافر هو الصلاة، فإذا تركتها فقد كفرت وانتقلت إلى الضفة الأخرى من النهر. لذلك لا أترك الصلاة أبدًا حتى لا أذهب إلى الضفة الأخرى من النهر، ومع ذلك للأسف لا أتوقف عن اقتراف الذنوب والوقوع في الزلل. فقضية أن الصلاة تعدل السلوك وتهذب النفوس، أظن أنها قضية أخرى بعيدة عن تفكيرنا، أو بمعنى أصح لم تغرس في تفكيرنا بشكل صحيح أو بطريقة فاعلة، لم نتعلمها بشكل سليم، ولم تُزرع في قلوبنا خلال مراحل تعليمنا المختلفة.. علمونا الصلاة وضربونا عليها، لكن لم يعلمونا لماذا نصلي، وما الغاية الأسمى منها؟!

ولو رجعنا لأصل المرض وسبب العلة في كل تدهورنا الحياتي والاقتصادي والمعيشي والاجتماعي الحالي لاكتشفنا بأنها "العلاقة مع الله" وتحديدا علاقتنا مع الصلاة على اعتبار أنها العمود الرئيس للدين؛ فعلاقتنا مع الصلاة ليست بتلك المتانة وذلك الرسوخ، إنها علاقة هشة، ضعيفة، مهتزة وسطحية. فحين نقترف خطأً مع الله ولا نستحي منه، ثم نذهب إلى المسجد ونتبجح بالصلاة، وكأننا لم نغترف إثما قبل ساعات، أظن بأن هذا السلوك لا يمكن أن يكون سلوكًا سويًا وطبيعيًا بأي حال من الأحوال.

ترى شخصا فاسدًا في عمله سيئًا جدًا في تعاملاته وقبيحًا في أخلاقه، وتراه في الصف الأول في المسجد، وهذا الصنف متوافر معنا بشكل مخيف وغير طبيعي. هذا السلوك هو نوع من أنواع الاضطراب النفسي والخلل السيكولوجي.

فالسلوك السوي يشير إلى أنه لو أخطأت على إنسان، ستستحي منه وستحاول جاهدًا أن تتجنب أن يراك أو تراه لبضعة أيام على الأقل، ستحرص ألا تقع عينك على عينه، وأن تتوارى عن ناظريه فترة من الوقت؛ لأنك خجلًا منه.. هذا طبعًا إذا كنت إنسانًا يستحي من نفسه، ويملك مثقال ذرة من الحياء. الغريب أننا نستخدم ونمارس ذلك الحياء مع الناس بشكل كبير، لكننا للأسف لا نمارسه مع الله إلا لممًا.

لذلك يصبح اقتراف الذنوب معنا سلوكًا طبيعيًا وفعلًا مقبولًا؛ كتناول الآيسكريم، وشرب الشاي، وقرمشة البطاطس وأكل الفشار؛ لأننا مؤمنين بأن الله غفور رحيم، وأنه سيغفر لنا آثامنا القبيحة وذنوبنا العفنة.

نعم نحن نصلي ونتقن مهارات الصلاة وفنيَّاتها ونسجد ونتركع، ونركض بسجاجيدنا إلى المسجد، ونطيل السجود، ونتلوا كتاب الله، لكن القلوب بعيدة عن عمق الإيمان وجوهر الإسلام وحقيقته.

إننا نستيقظ في البرد القارس نتوضأ لنلحق تكبيرة الإحرام في شدة البرد ووخزته، ونركض لصلاة الظهر في هجير الصيف ولفحة الشمس. هذه كلها سلوكيات وعبادات ليست سهلة، لكنها لا تصنع منا أفرادًا طاهرين وأنقياء، إنها تصنع منا مصلين ملتزمين بالصلاة في وقتها فقط. إنها تخلق منا "مصليين محترفين"، وليس مؤمنين مخلصين.

الإيمان الظاهري بارز معنا بوضوح تام، بينما الإيمان الحقيقي.. الإيمان الصدري الروحي العميق مفقود تماما، الإيمان الصوري الشكلي بارز بشكل صاخب، وصارخ في سلوكنا، لكن الارتباط بالخالق ارتباط صادق غير موجود بالمرة.

في صدورنا الكثير من الآيات، وفي سلوكنا الكثير من الخواء والخطأ والموات، فكيف يجتمع النقيضين في مكان واحد؟!

المطلوب والغاية أن أطلق لحيتي قدر استطاعتي، وأُقصر ثوبي، أحاول أن أكون في الصف الأول عند كل صلاة، وأن أحفظ خمسة أحاديث صحيحة، وثلاثة أجزاء من المصحف وسأكون "نبيًا" في نظر المجتمع. هذا هو ما يعكسه السلوك الخارجي السائد، فكل المجتمع يصلي ويركض للمساجد، لكن الغش والكذب والنفاق والتزييف وخيانة للأمانة والواسطة والكذب والحسد والقذف والحقد واللهاث لأجل تحقيق مصلحة دنيوية تافهة بأي ثمن منتشرة في مجتمعنا بصورة كارثية، تجدها متوفرة وفرة غير طبيعية وفي كل موضع وموقع.

نظرة بسيطة لعدد السيارات كل صباح أمام المحاكم وحجم وعدد ملفات القضايا الأخلاقية والسلوكية المكدسة فوق طاولة القضاة في كل محكمة من محاكمنا، يؤكد لك بأن الخلل الأخلاقي قد بلغ ذروته، وأن الخوف والحياء من الله لم يعد له وجود في الصدور، محذوف من الضلوع، وملغي من الصدور.

كل المجتمع مسلم ويصلي ويصوم ويتعبد، لكن الوضع الأخلاقي والسلوكي يزداد تدهور وانحطاطا بشكل مخيف، أليس المفترض أن يكون العكس؟

إذن أين دور الصلاة الحقيقي في تعديل السلوك وتقويمه؟ للأسف مفقود؛ لأنها صلاة عادة، وليست صلاة عبادة وتقرب وتوبة واعتذار من الله وتطهر.

رغم كثرة المساجد واكتظاظها، وكثرة المآذن وارتفاعها إلا أن القلوب ليست صحيحة، والأفئدة ملوثة والسلوكيات ليست مستقيمة بالمرة؛ لأننا نجهل شيئًا اسمه محاسبة النفس وتأنيبها وتقريعها وجلدها، إننا نتهاون مع نفوسنا حين تذنب، نطبطب على كتفها حين تخطئ، ونقول لها إن الله غفور رحيم، وندغدغها باعتقاد المغفرة، ونرش عليها بعقيدة رحمة الله الواسعة، ثم نمنحها تصريحًا جديدًا للخطيئة والزلل، ونضع أمامها فرصًا كثيرة لتكرار الخطأ وارتكاب المنكرات.

وبهذه الطريقة تفسد المجتمعات وتترهل وتتعفن فتضيع الحقوق، وتنتهك القوانين، ويتكلس المجتمع رغم أنه ظاهريًا يبدو مجتمعًا أبيض ملتزمًا محافظًا على مساجده وصلواته وصيامه وأركان دينه.

المساجد تُبنى بالملايين في كل مكان، وتزخرف بمختلف النقوش والزخارف والألوان، وبجانبها مئات الفقراء دون مساكن، ومئات الشباب دون قدرة على الزواج! نبني الظاهر ونرفعه ونزخرفه، ونتجاهل القضايا الأساسية والجوهرية والإنسانية. لذلك القلوب تبقى في منأى عن النقاء بعيدة عن السمو وعصية على العلو والطهارة.

حين تسمع الميكروفونات تصدح في أرجاء المدينة بأصوات الأذان في الأوقات الخمسة تشعر بأنك في مجتمع ملائكي لا يمكن أن ترى فيه خطيئة أو جريمة أو فاحشة. بينما الحقيقة المرة تتمثل في أنك بالكاد ترى فيه شيئًا واحدًا صحيحًا وصالحًا ومستقيمًا.

فأين مكمن الخلل؟!

أظن أنه الرادع الذاتي المفقود، أننا لم نتربى على تنمية الوازع الداخلي وصقل الضمير وتنقية السريرة. لم نتعلم كيف نبني أرواحنا ونجعلها مركز الاهتمام وموطن العناية، وهذه هي مصيبة المصائب في المجتمعات المسلمة، ولا يبدو أننا في مرحلة تصحيح مساراتنا السلوكية مع الله، لا يبدو أن هناك ثورة نفسية لتعديل الذات، لا يبدو أن هناك انتفاضة لمعالجة الضمير وتصحيح الدخيلة.

الإنسان يردعه شيئان: الدين والقانون.

الدول المتقدمة لا تعترف بالدين؛ لذلك تحكمها قوانين صارمة استطاعت من خلالها فقط أن تغرس لدى سكانها وشعوبها وعيًا وضميرًا، بعد أن انتهى دور الكنيسة في تعديل السلوك وتقويمه، فجاءت القوانين صلبة متينة وزاجرة ورادعة.

أما قوانينا نحن فليست بتلك الصرامة لتصنع لنا جيلًا نظيفًا ذي ضمير حي مخلص ومنتج وصالح يمكن أن يبني لنا وطنًا نظيفًا ناجحًا وراقيًا وصحيحًا وغير معوج؛ لأننا في حقيقة الأمر يفترض ألا نكون بحاجة ماسة إلى قانون صارم يرمم لنا هذا الترهل والتدهور الخلقي والسلوكي.. فلدينا دين يحوي أجمل وأروع أخلاقيات الدنيا، ولدينا عقيدة رادعة وناهية وصالحة لكل زمان ومكان، معنا دين جاء في الأصل لإصلاح أخلاق كل الناس وتهذيبها وصقلها.

لكن للأسف، لا الدين هذبنا، ولا القوانين زجرتنا وعلمتنا وردعتنا كي نكون على قدر معقول من الانضباط الخلقي والسلوكي والديني والضمائري.

نظرة بسيطة إلى الواقع، وكيف يستقبل الناس شهر رمضان.. استعدادات هائلة على القشور والسطحيات، تزاحم على الصحون، واهتمام وتركيز على البطون، تعبئة الثلجات وخزانات المطابخ، برامج طبخ وقوائم المأكولات طوال شهر رمضان، وليس هناك أي قوائم أو برامج لتغذية الأرواح وغسلها ورفعها والسمو بها..

القلوب والأرواح في آخر القائمة، وربما تكون محذوفة تماما من القائمة!

مجرد تأمل بسيط لهذه الازدواجية في معاييرنا، تُوصلنا إلى نتيجة واحدة ربما تكون قاسية وتشاؤمية لا يقبلها منطق المؤمنين المتفائلين، لكنها تظل الحقيقة الفجة القبيحة الوحيدة التي لا مناص من الاعتراف بها؛ وهي أننا في وضع أخلاقي وسلوكي كارثي للغاية، ولعل الحكمة من وجود شهر رمضان وحضوره السنوي بانتظام أن الله جعله شهر التوبة، إنه محطة رئيسية للتوقف والندم ومحاسبة الذات وتطهير السريرة والحياء من الله، والغوص عميقا في داخلنا.. الغاية من شهر رمضان إهمال القشور وترك المظاهر، وبناء وترميم وتطهير الداخل، فإذا صلحت الأرواح صلحت الأجساد وصلحت الحياة برمتها.

فبإصلاح الداخل تنصلح النفوس وتتهذب البشرية وتستقيم المجتمعات.

فركزوا على أعماقكم.. ادخلوها ونظفوها وطهروها من الدرن واغسلوها من الدنس، ليرحمنا الله ويرفع عنا هذه المصائب التي تتكدس فوق رؤوسنا.