قراءة في كتاب "نظام التفاهة" (2 -4)

عبيدلي العبيدلي

لذا؛ فمن يقصدهم دونو هم تلك الفئة متوسطة القدرات التي تنتج نظاما متوسط المواصفات. هذا النظام المتوسط له قدرات فائقة على الإبهار الذي يعمي الأبصار عن عيوبه، ونقاط ضعفه التي تحتاج إلى مجهر نظام مختلف المعايير كي يجري الكشف عن مثالبها التي وضعتها ريشة دونو تحت مجهرها الدقيق. ولا ينكر دونو أن من يقف وراء تلك الفئة وينعش أحلامها هي تلك الأوليغارشية الجديدة التي ولدتها النيو ليبرالية التي تنعم بفوائد قيمة العمل الإضافية التي تولدها لصالحها تلك الذهنية الوسطية.  

جوهر الأمر هنا أنَّ دونو يجتهد في توصيف مجتمع يمنح الشخص المتوسط نسبة عالية من السلطة القائمة في ذلك المجتمع، ويولد ذلك منظومة من السلوكيات التي تعم مؤسسات المجتمع، ينجم عنها مقاييس متوسطة، تزيح بشكل موضوعي ممنهج المشروعات والقوى الطموحة ذات الكفاءات العالية التي تقف وراءها، والتي تحاول أن تغير من هذا النظام الساكن. كل ذلك يحول دون تقدم ذلك النظام على النحو الذي تروج له الفئات المستفيدة التي تمسك بزمام الاحتكارات التي تمسك بزمام المجتمعات الغربية. دونو، الذي بدوره يدعو للتمرد على هذه الحالة من التفكير الوسطي لا يعطي أجوبة شافية تعين من يريد على التخلص من براثن هذا النظام المتكئ على الذهنية الوسطية.

يجادل دونو -بشراسة- لكن دون أية مناكفة في توصيفه للنظام الدولي القائم اليوم، قائلا بأن أصبح لدينا نظامًا عالميًا يدفع سكانه نحو التوسط، بعد أن يطلب منهم أن يكونوا عاديين تماما، وبعد أن يجردهم، ذلك النظام من سلوك الرغبة في السمو نحو ما هو أعلى. فنراهم ينزعون، بقرار ذاتي، نحو القبول بالوسطية المشوبة بشيء من الجمود الذي يطلق عليه دونو سمة "التوسط"، في حين اختارت المترجمة د. مشاعل الهاجري إطلاق صفة "التفاهة" بديلا لسمة "التوسط" التي اختارها المؤلف الأصلي لوصف النظام الذي قام بتشريح جثته.

فحسب دونو، نحن نعيش في نظام التوسط، وليس التفاهة أو الابتذال، حيث يكافئ النظام الكسالى والخاضعين فكريًا -طالما ظلوا أكفاء ومنتجين- لكنه، أي ذلك النظام متوسط الأداء، لا يتوانى عن معاقبة الأكفاء ونبذ ذوي الفكر الإبداعي، الذين تضعهم مقاييس هذا النظام المتوسط في خانة "الطائشون أو المتهورون" الذين يقفون، أو يحولون الوقوف، في وجه مؤسسات التوسط التي تسير أعمال مؤسسات السلطة القائمة.

ويعود آلان دونو إلى جذور تأسس هذا النظام، فيرجع بدايات نشأة هذا النظام متوسط ​​الأداء إلى مرحلة بدء تدمير الحرف اليدوية من قبل الثورة الصناعية، والتي فرضت ما عرف حينها بـ "تقسيم العمل". وهي حين قامت بذلك برَّرته بسعيها وراء غزارة الإنتاج، الذي برز على حساب الإبداع في مخرجاته. فانتعشت عمليات تقسيم العمل والإنتاج على نطاق واسع. ولد ذلك الاعتماد على ما هو "متوسط " كي يصبح هو المثالي، على حساب ما هو مبدع الذي أصبحت كلفة إنتاجه باهظة وهادرة للوقت، من وجهة نظر المتسلطين متوسطي الكفاءة. تحكم عامل الزمن وتغلب على مقاييس الإبداع والابتكار، حسبما يقول دونو. أدى ذلك إلى نزيف شبه شامل، جر المجتمع الصناعي نحو التوسط، وأبعده عن كفاءة الأداء ذي المستوى العالي. ومست هذه الوصمة مؤسسات التعليم العالي، والاقتصاد، والثقافة، والسياسة. ومحصلة ذلك -كما يشرح دونو في كتابه "هيمنة لا- تتسامح مع أي شيء إلا نفسها، بمقاييسها المتطرفة في التوسط".

ويرجع دونو أسباب هذا التحول في المجتمعات الرأسمالية إلى عاملين مفصليين؛ الأول: مصدره   التحريف الذي طرأ على تغير مفهوم العمل في تلك المجتمعات. فقد فقدت "المهنة/الحرفة" مواصفاتها الرئيسة وهوت إلى درك الــ"وظيفة".

أما ثانيهما، فخلفيته سياسية، وعلى وجه التحديد تحديد مفهوم الدولة ووظائفها التي يرى دونو أن حكم التكنوقراط قل استولى على الدولة، ومن ثم الشأن العام. وجرى استبدال مقومات الإرادة الشعبية بما أصبح يطلق عليه "المقبولية الاجتماعية". وعلى نحو مواز حلت «الحوكمة» مكان السياسة. وصارت المسؤولة عن تسيير الشأن العام ووضع معاييره إلى مجرد تنفيذ تقنيات إدارية لا غير. وصارتْ الدولة جهازا ضخما يدار بعقلية الشركات التجارية.

وفي خضم مثل هذه التحولات الراديكالية نحو الخلف، ترمي الوسطية بشباكها على مكونات المجتمع. المنتجة، ونرى المؤلف هنا يجرد الجامعة كحاضنة لإنتاج عمال المستقبل للشركات من دورها المبدع، كما عهدناها في عملية تفريخ الموارد البشرية المبدعة. وهنا يكشف دونو عن كلمة السر في كتابه التي يطلق عليها "اللعبة" التي يمارسها الجميع؛ إذ تتحول هذه الجامعات إلى المكان الذي يعتمد فيه التقدم على "ممارسة اللعبة"، والتي هي التوسط في السلوك الساكن، بديلا للنظام التعليمي القائم على الإبداع والتطوير.

وتجرَّأت الشركات الاحتكارية على الحرم الجامعي بفضل المنح المالية التي تقدمها هذه الشّركات للجامعات، فوجدت هذه الأخيرة نفسها منصاعة، وبشكل طوعي شكليا، لإملاءات تلك الشركات. وتحولت أبحاث الجسم الطلابي ومشروعات الهيئة التعليمية إلى عبيد جدد أسرى القيود التي فرضتها هذه الشركات. ولم يعد الفكر مطالبا بأن ينتج المعرفة. ولم تستطع الجامعات أن تواصل بيع نتائج أبحاثها، وإنما تبيع علاماتها التجارية وتحولت الجامعات بفضل ذلك إلى شريك في عملية التدليس ضد الزبائن، لتحقيق أقصى نسب من الربح تحت وطأة سياط "الإنتاج من أجل الاستخدام".

تنشأ في حرم جامعات اليوم تلك الفئة متوسطة التفكير والسلوك البعيد عن الطموح، والمتحاشية الهبوط في آن". في هذه اللحظة، يشير دونو بأصابع الاتهام نحو من يصفها بالطبقة الحاكمة العالمية، التي "تحوم حرفيًّا فوق كل شيء" بينما يطير أعضاؤها حول العالم لإبرام صفقات في الوقت المناسب، والتي لن تصل فوائدها أبدًا إلى عمالهم. إنه يتتبع كيف نقمع التفكير الصادق والشعور المتأجج نحو الإبداع حتى لا نعرض رفاهيتنا المالية للخطر (في العمل، على سبيل المثال)، وكيف يحمل هذا الصمت عبئًا نفسيًا ثقيلًا.