سيارة أبي

عبدالله الفارسي

 

"احتفظوا بذكريات من أحبكم وأخلص لكم من الراحلين، وخلدوها في قلوبكم".

*****

نحن من نعطي الأشياء قيمة، نحن من نمنحها مكانة وهيبة، نحن من نرصعها بالجمال وننقشها بالروعة ونخلدها زمردا وعقيقا في الذاكرة  لأنها تستحق.

زُرت صديقا عزيزا في منطقة الباطنة العزيزة إلى نفسي، وحين وصلت إلى بيت صديقي رأيت شجرة شيريش ضخمة وافرة الظل، تقبع تحت ظلها سيارة قديمة لامعة ونظيفة كأنها جديدة.

فقلت له مازحا مداعبا: "هل هذه السيارة الجميلة للبيع؟"، فتنهد صديقي وتنفس واستنشق هواء عميقا كأنه على وشك أن يغوص، وروى لي هذه الحكاية الحميمة.. يقول: "اشترى أبي هذه السيارة في العام 1981، وكانت أول سيارة في بيتنا، بعد أن أنهى خدماته في عسكرية أبو ظبي في العام ذاته. جاء يحمل مبلغا كبيرا من المال، حاول أن يشتغل به في التجارة، وبعثر أمواله هنا وهناك؛ لأنه إنسان طيب القلب سخي النفس أبيض الأصابع شفيف الروح في مجتمع لا يرحم الطيب، ويستغل الكريم درجة القتل، فذهبت أمواله أدراج الرياح. وقبل أن تنفد كل أمواله قرَّر شراء هذه السيارة، اشتراها وأحالها إلى سيارة أجرة، وحافظ عليها كما حافظ على أبنائه، كانت مصدر رزقنا الوحيد، كان يخرج بسيارته من الفجر ويعود في نهاية اليوم منهكا مرهقا من القيادة، يعاني من آلام الظهر، فينبطح على بطنه، ويطلب منا أن ندوسه فوق ظهره بالتناوب، فنفعل ذلك ضاحكين كأنها لعبة مسلية، فتتحول آلامه إلى فرح وتتبدل أوجاع ظهره إلى بهجة ومرح.

كان لا يشتكي ولا يتذمر، كانت بسمته هي الظاهرة، كانت ضحكاته هي البارزة، بدد كل صحته من أجلنا وأنفق جل عمره حتى كبرنا واشتد عودنا.. 30 عاما جنديا مقذوفا في صحاري الإمارات برفقة السحالي والثعابين، و30 عاما مهروسا في هذه الشوارع دعكها بالعرق والتراب وغمسها بالشمس والعذاب حتى انتهى وتلاشى. فبفضله كثرت السيارات الواقفة بجانبها وحولها.. ووقفت سيارتي الجديدة وسيارات إخوتي وسيارة أختي، كلها سيارات حديثة وجديدة، لكنها لم تكن بجمال وروعة وهيية سيارة أبي القديمة. كانت سياراتنا الجديدة تبدو قزماء هزيلة بجانب سيارة أبي القديمة العظيمة. كانت لها هيبتها وجمالها وعبقها دون سائر السيارات التي بجانبها، تلك السيارة القديمة التي تراها هناك كانت بالنسبة لأبي شيئا عظيما ثمينا ورفيعا. كان يهرب إليها ليخلو بنفسه، يختفي فيها ليدخن ويفكر، لم يدخن أبدًا في بيتنا احتراما لأمي التي تكره رائحة الدخان وتزعجها.

كانتْ ملاذه الآمن ومهربه الدائم؛ فيلجأ إليها ليسمع أغاني فيروز، التي تملأ أسطواناتها صندوق السيارة وجيوبها. كان ينصحني: "لا تستمع إلى فيروز، فيروز ستعبئ روحك رقة ونسيما، وهنا لا يمكن أن تعيش إذا لم تمتلئ روحك ملحا وجحيما".

كان أبي يبكي في سيارته، لم أرَ أبي يبكي إلا في سيارته، فحين توفيت جدتي، ظل طوال النهار صامتا، وحين غادر الجميع ذهب إلى سيارته وأخذ يبكي، ويطلق لروحه ودموعه العنان حتى وقت متأخر من الليل.

أما الضربة التي قصمت ظهره، فهي حزنه على فقدان أخي الأصغر حين توفي في حادثة مؤلمة، كان يحبه حبا جما، كان يداعب والدتي ويقول لها دائما: "هذا الولد الجميل من الجنة".

مات أبي حُزنا وكمدا على فقدان أخي الأصغر، كان في الثالثة عشرة كان أجملنا صورة، وأكثرنا ضحكا وأنقانا روحا وبسمة، وحين رحل حزن أبي حزنا شديدا قاتلا ومات بعده مباشرة، كان حين يتذكره تدمع عيناه وتتدفق دموعه تلقائيا، فتقول له أمي: "لا تبكي عليه لقد ذهب إلى الجنة، كان في زيارة قصيرة إلى الأرض ورحل".

صَدمَه سائق طائش وهو عائد من المسجد بعد صلاة العشاء ففارق الحياة مباشرة، حين سمع أبي الخبر صمت 10 أيام لم ينطق بكلمة واحدة، وفي ليلة اليوم العاشر لم يحتمل قلبه كل ذلك المخزون الصاخب الهائل من الصبر والألم فذهب إلى سيارته كعادته وأغلق على نفسه بابها وانفجر في البكاء، بكى بكاءً مريرا، فعصر الحزن من قلبه وسكبه خارج روحه. توفي أبي في سيارته، ولم نكتشف ذلك إلا في فجر اليوم التالي.

فذات عشاء، كُنا معا نجلس أمام البيت، وهو جالس في مقعده بالسيارة وأنا في كرسي بلاستيكي خارج السيارة، كنا نتحدث وندردش في شأن من شؤوننا، كان يدخن بشراهة لم يسبق أن رأيته يدخن بها من قبل. ويتلفظ ببضع كلمات لم أسمعها جيدا، كان هامس الصوت مهدود الروح، وقبيل العاشرة تركته لأنام، قال لي: سأجلس هنا لبعض الوقت. ثم ذهبت لأنام، وظل أبي في سيارته طوال تلك الليلة يدخن ويبكي ويحرق صدره  ونام في مقعده ولم يستيقظ بعدها.

أخبرتني أختي الصغرى بأنه كان يبكي كل ليلة في سيارته منذ رحيل أخي الأصغر، حتى توفي في تلك الليلة المشؤومة بعد سبعة أشهر من وفاة أخي.

كانت سيارة أبي هي مصدر سعادتنا؛ لأنها كانت مصدر سعادته، كان ينظفها ويلمعها، ويمسحها بيديه وردنيه كل صباح، وحين يقف مُنتظرا دوره في موقف سيارات الأجرة لا يشارك البقية ثرثراتهم، بل يسحب فوطته الصغيرة من صندوق سيارته ويسلِّي نفسه بمسحها وتنظيفها بكل نشاط ومتعة.

كان يقول: هذه أفضل من أي وطن: "لقد أطعمتني حين جعت، وواستني حين فجعت". ترك فيها محفظته وبطاقته المدنية ورخصة قيادته المنتهية وبطاقة المستشفى الذي لم يزُره سوى مرة واحدة في حياته، كلها كانت في جيب السيارة، رفضت أمي إخراجها من السيارة، وقالت لنا: "لقد وضعها والدكم في سيارته، فلا تُسِيئوا التصرف مع رغبة والدكم، دعوا كل شيء في مكانه وكما تركه في سيارته".

حين أشتاق لأبي أذهب إلى سيارته، أُخرِج فوطتها من جيب الباب وأمسحها كما يمسحها أبي، ثم أجلس في مقعد الراكب فأرى أبي جالسا يدخن يستمع إلى أغنية فيروز "سلم لي عليه"، ويرددها بصوته الحنون ويبتسم، ثم يضحك ويلقِي لي نكتة مضحكة، ثم يصمت صمتا أزليا، كل شيء موجود في سيارة أبي، لم يمت ولم ينطفئ ولم يختفِ ولم ولن ينمحي.. روحه، رائحته، صوته، ضحكته الجميلة، أعقاب سجائره، زجاجة عِطره الخفيف الرخيص، أنفاسه الهادئة، وعظمته، ورقة قلبه الباذخة.. ليتني أملك هذه العظمة وهذا الأثر الذي تركه أبي في سيارته ورحل.

وختم صديقي حكايته الحميمة قائلا: "سيارة أبي غالية لا تُباع أبدا، إنها غالية كالوطن.. لا يُباع!".

الخلاصة.. احتفظوا بذكريات من أحبكم وأخلص لكم من الراحلين، وخلدوها في قلوبكم.